مشهد 1
المكالمة التي قتلتني
اتصال تليفوني مباغت جائني في محل عملي
عند منتصف ليل الإثنين من شقيقي الأصغر يقل لي بصوت مخنوق تسبقه العبرات: تعالى بسرعة أبوك تعبان أوي وعايز يشوفك!!
حينذاك لم أشعر بوقع كلماته
ولا بوجع ما تحمله من معنى إلا حينما وضعت سماعة الهاتف وتركت عملي وكل شئ وعدت إليه مسرعا في البيت الذي شهد مولدي ووفاة والدي فوجدته طريح الفراش لا يقوى على الكلام يراني بصعوبة بالغة ويسمعني بالكاد ولكنني ارتميت في حضنه بكل جسدي وحضنته بنهم فشعر بي وضمني بشدة بكلتا يديه التي أكل عليها الدهر وشرب ضمة رقيقة وقاسية وكأنه يودعني ويضمني الضمة الأخيرة فخفت عليه مني فقمت من علي صدره فأمسك بي وأنا أقبل يديه وقبلني بين عيني وما نطق بكلمة واحدة.
هذا المشهد الأخير كان يفيض بالكلام الملئ بالسكوت والسكون والجنون من هول الموقف فجفت العين من كثرة ماذرفت من دموع وأخرجت كل من كان في الغرفة ورفعت كل الصور المعلقة على الحوائط والجدران وجلست على حافة السرير عند قدمي والدي أقرأ عليه ما تيسر من كلام الله لعل الله أن يخفف عنه ما يراه.. كانت المرة الأولى في حياتي التي أشهد فيها لحظات خروج الروح وروح من.. روح أبي الأغلى على من روحي.. روح السند والصاحب والرفيق.. خير روح خرجت إلى الارض بعد حبيبي محمد عليه الصلاة والسلام.. لحظات قاسية موجعة قاتلة.. لكن الله لطيف بعبادة تذكرت أنها أمانة ولابد يوما أن ترد الأمانات إلى أهلها إلى خالقها إلى ربها فتصبرت على ذلك بكلام ربي.
مشهد 2
خروج روح أبي
اليوم تمر الذكري الحادية عشر على رحيل أبي
الذي خرجت روحه في مثل هذه الأيام الطاهرة المباركة وفارق جسده الشريف حياتنا الدنيا وكان النزاع الاخير له في الحياة.. وضعت يدي على قدميه فكأنها مست قطعة ثلح من شدة البرودة التي ضربت جلده وأعلنت عن الرحيل وخروج الروح وأنا منكب بي صفحات القرآن الكريم أحاول أن أجد فيه الصبر الجميل.. ولكن كيف لي بالصبر ومن علمني إياه تهرب روحه من بين يدي وأنا جالس انظر إليه واتفرج عليه ولا استطيع فعل شئ يؤخر ذلك يوما أو ساعة أو حتي دقيقة حتي أكتفي منه.. هنا تذكرت قول ربي « فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون» فنزلت السكينة علي قلبي فدمعت عيني وأكملت تلاوتي.
مشهد 3
مات أبي.. ورحلت ابتسامتي
زي النهاردة مات أبي وغابت البسمة عن وجهي وارتحلت الفرحة التي كانت تسكن قلبي والراحة التي كنت أشعر بها في حضرته وأصبحت يتيما بكل معنى الكلمة بلا ظهر ولا سند ولاظهير غير ربي ودعوة أمي الباقية.. حفظها ربي من كل سوء وشر، من مثل أبي في الكون.. لا أحد .. من في جمالك ياسندي.. لا أحد.. من يعوضني سويعات خالدة اخطفها من عمر الزمن اجلس فيها بين يديك كما كنت افعل لاتملي فيها من عينيك واغرق في محيط حبك وحنانك وكرمك ورعايتك وانصت فيها إلى حكيك وذكرياتك مع الأرض والشقاء لعلي أتصبر بها على وجع الفراق وألم الفقد ومرارة الحرمان..من لي بعدك سوى ربي يا أبتي.. من يسمعني حين أصرخ من الظلم أو أصحو من نومي على كابوس عشت تفاصيله المؤلمة في واقعي الممرور يا أغلى ماعندي!!
مشهد 4
علي شفير القبر أكلم أبي ولا يجيب
وحدي جلست ع شفير قبر أبي في ذكراه أناديه ولا يرد علي .. أحدثه ولا يبادلني الحديث والحكي كما كنا نجلس سويا بالساعات في بيتنا البسيط في بلدتنا البعيدة أحكي له تفاصيل موجعه لا يشعر بها سواه وأعري نفسي أمامه لأنه الوحيد بعد أمي الذي يسترني ويطبطب علي ولا يسمح لدمعتي أن تحرق قلبي .. كنت أعلم يقينا أنه يسمعني وينصت إلي ولكن لن يرد علي حتي يردني الله إليه والحق به فنتسامر سويا ونحتمي بأعمالنا التي كنا نقدمها ليوم الميعاد وضمة القبر. رحلت عنا يا أبي وتركت لنا حياة منزوعة الطعم واللون والرائحة.. حياة كلها صارت هري وهراء واليوم يعيد الامس ويكرر ساعاته بنفس التفاصيل المملة القاتمة.. هذه أقرب ما تكون إلي رحلة عذاب .. منها إلي دار عيش نتعذب فيها بفقد الاهل والاحباب ونكتوي فيها بلهيب أكل العيش ونتحمل في طريقها ظلم وفساد العباد وحكام البلاد.. رحلت حبيبي وتركت لنا دنيا فانية وحياة قانية اللون وبشر قلوبهم من كثرة ما ران عليها من سواد تحجرت وقست فصارت كالحجارة أو أسد قسوة.. رحلت حبيبي ولكن بقيت سيرتك العطرة وأفعالك الخيرة وإصلاحك بين الناس ع كل لسان وداخل كل انسان صنعت له معروفا تدع لك بالخير والرحمه والرضا والجنة.. رحلت ورحل عنا كل أحبابك وأصحابك وأقرانك وتركتنا في وجع نجتر الذكريات الجميلة حتي نلحق بك ع خير.
مشهد أخير
رب ارحمهما كما ربياني صغيرا
من يعوض غيابك يا أبي .. لا أحد
من يسد فراغات وجودك يا أبي .. لا أحد
من يحكي لي بعد اليوم يا عزيزي.. لا احد
من يسعدني غيرك ويأتي لي بالهدايا وياميش رمضان ولبس العيد.. لا أحد.. من يفرح لفرحي ويحزن لترحي ويشاركني تفاصيل يومي مثل ظلي.. ليس سوي أمي وإخوتي.. من يدخل علي ليلا ويطمئن علي غيرك يا أبي.. من يوقظني لصلاة الفجر سواك يا أبي.. من يمنحني الامان ويكون معي بعدك يا أبي .. لا أحد لا أحد لا أحد .. فقد رحل أبي.. وإنا لراحلون ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا