مشهد دش أحمد زكي
روائع عاطف الطيب لا تنتهي.. تبدأ متعتُها مع المشاهدة وتستمر، إذ لا تبرح الذاكرة! والعشر دقائق الأولى في رائعته “الحب فوق هضبة الهرم” وحدها جديرة بكتابة نقدية ودراسة عن رأس عاطف الطيب، فيم تفكر، وكيف تتمخض عن هذه البدايات الممتعة والاستهلال الذي يُمَل.
والآن وقبل أن تقرأ هذه السطور.. استحضر في ذهنك موسيقى الفيلم التي نحتها ببراعة هاني مهنا فوضع للفيلم قيمة فنية “ثالثة” بخلاف تألق أحمد زكي وكاميرا عاطف الطيب التي تصيب الهدف دائمًا، فلا يخطىء لها كادر أو يضل لها مشهد.
استبعد من ذهنك الآن كل أعمال عاطف الطيب، ودعك من بصمته المميزة التي تُعرف بها أفلامه من لقطة واحدة منها، ودعك أيضًا من جميع مشاهد فيلم “الحب فوق هضبة الهرم”، فقط أدعوك لتأمل العشر دقائق الأولى التي يستحق عليها (الطيب) أوسكار جذب الانتباه واختبر نفسك.. لو استطعت أن تدير رأسك وتلتفت لأي شاغل من حولك وأنت تشاهد هذه الدقائق الأولى فأنت كاسب لرهانٍ بيني وبينك، فتلك إحدى مهارات وأعاجيب المخرج الأسطوري الراحل.
تبدأ العشر دقائق من الثانية الأولى حتى مشهد “الدُشّ” ووجه أحمد زكي تحت رذاذ الماء، الذي اختاره (الطيب) لبداية غير تقليدية لـ “تتر” الفيلم.
فكل من شاهد الفيلم يعي في ذاكرته السينمائية جيدًا، تلك العبارة التي نزلت على صورة أحمد زكي ورذاذ الماء باللون الأسود: “قصة نجيب محفوظ”، ثم تلتها أسماء الممثلين والقائمين على العمل ليصبح “التتر” وحده إحدى علامات السينما المصرية.
الدقائق الفريدة تبدأ بمشهد في إحدى شوارع وسط البلد المزدحمة بكل تفاصيلها التي نألفها ونحياها ونتذوقها كل يوم، كتل بشرية تتداخل في بعضها البعض، ثم غواية من امرأة تغازل وتداعب ملامح وجه (علي) المتعطش لأي أنثى.
تمامًا كما تأتي تلك الغواية في منام الشرفاء، تحقق لهم أمانيهم وتلامس نيران شرايينهم المكبوتة، وتفي بكل سيناريوهات خيالاتهم النهمة التي يستحيل تحققها في الواقع، حيث تمنعهم اعتبارات الدين والأخلاق والأعراف وقائمة ما يجوز وما لا يجوز.
اندفع (علي) وعبر الشارع بلهفة وخطوات متعجلة لا يقدر على أدائها إلا فنان في احترافية “أحمد زكي”، وركب السيارة وانطلقت به نحو “هضبة الهرم” المكان الذي يجمح فيه خياله، ويتصور أنه البراح الذي لن يراه فيه أحد، ولا تمنعه إمكانياته الضئيلة، ولا تعوقه ظروف المجتمع، ولا تحده تلك الشعارات الرنانة الطنانة التي يهذي بها كتاب كل مرحلة عن العدالة الاجتماعية وحق الفقير في حياة كريمة.
ثم يرسم (عاطف الطيب) ببراعة لوحة في تداخل الحلم مع الحقيقة لحظة النشوة وذروة سعادته، وهو في أحضان الفتاة وأمه تناديه: علي… يا علي.. قوم يا علي!!.
قوم يا علي لحياة مفروضة عليك، قوم ومارس يوم بيعدي بالعافية، قوم من مجرد حلم مش من حقك تحلمه، قوم قبل لحظة النشوة اللي مش هتطولها لا في الحقيقة ولا في الحلم!!
قام “علي” وبدأ ينظر لكل ما حوله، أما آن لهذا الواقع أن يتغير، نفس الغرفة.. نفس الحياة.. نفس الصباح.. نفس الإفطار!
نظر (أحمد زكي) لأركان غرفته وتحسر على حلمه الذي انتشله من واقعه المؤلم فتمتم بكلمات سمعها من دقق فقط، حيث قال: يعني لازم تصحيني دلوقت ؟!!
وجاء مشهد (الدُشّ) الذي هو في الحقيقة يعتبر (الخلاص) والحل المؤقت الذي يمنحك ربع طاقة تكمل بها يومك، وبصيص من الأمل تقنع نفسك من خلاله بحياتك المفعمة بالألم.
إنه رذاذ الماء الذي يخدعك ولو مؤقتًا بأنك لا زلت إنسانًا تحيا وتعيش وتتنفس، ويمهلك يومًا جديدًا لتفكر وتحلل وتقاوم هواجسك المهلكة (الدُشّ) على هذا المنحى، هو المكان الوحيد الذي تأخذ فيه مهلة من سعيك وطوافك حول معضلتك ومأساتك اليومية.
اختار (الطيب) اصطدام رذاذ الماء بوجه أحمد زكي في حمام مظلم لكي يجسد فيه مأساة الآملين في حياة لا تستجيب لهم، وفتح على المشهد منحوتة موسيقية جبارة لـ(هاني مهنا) تجبرك على الحنين والتعاطف وربما البكاء، وترى وأنت تشاهد الفيلم وتعلم جيدًا نهايته المحبطة (آثار الحكيم) وهي تجسد ذروة منتهى أمل (علي) أو أي شاب مثله، وهي تتحول إلى حلم لا يختلف كثيرًا عن الحلم الذي بدأ به الفيلم.
الحمد لله على نعمة (الدُش) ورذاذ الماء التي لا زالت في نطاق قدراتنا، وتمنحنا حجة شرعية في الاستمرار والبقاء.
نرشح لك: وسام سعيد يكتب: شابووه وبعد (2).. “منير” وليس “الكينج”!!