الخامس والعشرون من يناير عام 2013 في محافظة بورسعيد … كان الآلاف من أبناء المدينة يستعدون لجلسة النطق بالحكم في قضية ستاد بورسعيد، ليلة النطق بالحكم تجمعوا بجوار السجن العمومي حيث كان يحتجز المتهمون في القضية، نصبوا مسرحاً وأخذ قادة روابط مشجعي النادي المصري “أولتراس جرين إيجلز” في اعتلاءه وتهييج مشاعر المتواجدين بهتافات لم تخل من العنصرية أحياناً، وأيضاً تواجد عدد من القادة الشعبيين والسياسيين كل منهم نال دوراً في شحذ العواطف، كان لديهم شبه يقين أن أبناءهم سيحصلون على البراءة، ومع تزايد الأعداد كان الشعور بالخطر داخلي، يتزايد فقوات الجيش والشرطة على بعد خطوات تحول بين المتجمعين و أسوار السجن ولايحتاج الأمر أكثر من مواطن متهور لينفجر الموقف لكن الليلة مرت بسلام.
لم يكن من الممكن إطلاقاً “من وجهة نظري” آنذاك أن أعود مرة أخرى في الصباح إلى مكان التجمع بجوار السجن والذي سيتواجد فيه معظم المواطنين، إنه يوم النطق بالحكم و كنت أرى أنها منطقة خطرة وفضلت أن اتفق مع عدد من أهالي المتهمين على متابعة الحكم من أحد المقاهي في وسط المدينة.
في السابعة صباحاً بدأنا النقل على الهواء مباشرة لمشهد الأهالي داخل المقهى يترقبون الحكم، وكانت معظم القنوات الأخرى بجوار السجن تنقل نفس المشهد، حانت اللحظة وصدر الحكم باحالة أوراق بعض المتهمين إلى المفتي وصدرت أحكام بالسجن مدداً مختلفة على آخرين.
طوال حياتي لم ولن أرى مشهداً كبورسعيد بعد الحكم، في لحظة تحولت إلى مدينة هيستيرية، كان الرجال يصرخون في كل مكان وأطلت السيدات من الشرفات يلطمن الخدود، المحال التجارية كلها أغلقت، وتوقفت السيارات، لم يكن الحكم إدانة لبعض المتهمين بقدر ماكان إدانة للمدينة كاملة، هكذا فهمت من المشهد الجنوني الذي بدا وكأن لوثة عقلية أصابت الجميع.
كان على أن أكون على الهاتف مع القناة لشرح تطورات الموقف ولدواعي السلامة ابتعدت عن الحشود قليلاً حتى لايسمعني أحد وأثناء المداخلة أخبرتني المذيعة أن طاقمي يتعرض للاعتداء وأن المصور قد أصيب!، وكان غريباً أن أعرف خبراً كهذا من الاستديو وأنا على الطرف الآخر من الشارع، مسرعاً ذهبت لزملائي لم يكن اعتداءاً متعمداً، بل كان شخصاً غاضباً دفع الكاميرا بيده فأصابت رأس المصور، حملناه إلى المستشفى وكان الأمر بسيطاً وعدنا مسرعين إلى الفندق الذي نقيم فيه لأن الأمور قد أخذت منحى أكثر خطورة وبدأت مجموعات من الشباب الغاضب في تحطيم كل مايمت للدولة بصلة، مجمع المحاكم والإدارات التعليمية وشركة المياه، حتى إشارات المرور لم تسلم من الاتلاف المتعمد، وغير بعيد عنا بدأت الاشتباكات في محيط أقسام الشرطة، وتم اقتحام واحد منها وكان صوت الأعيرة النارية “مختلفة الأحجام” لاينقطع.
بدأت تصلني الأخبار من منطقة السجن العمومي، كان الوضع أكثر خطورة، وتم استهداف الإعلاميين جميعهم، منهم من استطاع الهرب والخروج من المدينة تماماً باقل الخسائر من الإعتداءات، ومنهم من تم التعدي عليهم وإحراق سيارتهم وإتلاف معداتهم بشكل كامل، لكن الأكثر خطورة كان أعداد الضحايا الذين سقطوا جراء الاشتباكات في محيط السجن والذي تحول إلى ساحة معركة حقيقية.
طرق بابنا مسؤول الفندق وطلب منا ألا نحاول حتى الظهور من النوافذ لأن هناك مجموعات تأتي وتسأله إن كان من بين النزلاء أفراد من القاهرة !، أخذت الأمور منحى مختلفاً …الآن يبحثون عن الغرباء من خارج بورسعيد!، لم يكن مطروحاً أن نخرج من المدينة لأنه تم إغلاق مداخلها ومنع الدخول أو الخروج منها الا لسيارات الإسعاف والشرطة.
ظللنا حبيسي الغرف في الفندق طوال اليوم وأذكر أنه حتى ساعة متأخرة من الليل لم تصمت الطلقات النارية، حتى المصادر الصحفية من أبناء المحافظة الذين كنت اعتمد عليهم في معرفة الأخبار كانوا محاصرين داخل احدى الشقق في محيط السجن لايستطيعون المغادرة بسبب عنف الاشتباكات، الطريف أننا كنا جوعى لم نأكل شيئا منذ الصباح وقد غادر العاملون في الفندق بسبب سوء الأوضاع، قررت أنا وزميلي منفذ الإنتاج أن نغامر بالخروج بعد منتصف الليل بحثا عن طعام، ورغم حالة الطوارئ وحظر التجوال التي فرضت وآليات الجيش وقواته التي انتشرت خرجنا نمشي مسرعين في الظلام حتى وجدنا متجراً مازال يعمل، أخذنا كل مانحتاج ووقفنا أمام البائع ننتظر أن يقول لنا المطلوب، دفعنا الأجر وأخذنا الباقي وانصرفنا دون أن ننطق بأي كلمة خوفاً من افتضاح أمرنا بسبب اللهجة!.
.استمر الحال في اليومين التاليين، لم نستطع الهرب من بورسعيد الا وقت صلاة الجنازة على أرواح الضحايا الذي سقطوا أثناء الاشتباكات، ساعدنا دليلنا الصحفي على استقلال سيارتي أجرة نقلتنا الى أحد المخازن، ثم نقلنا بسيارة “توريد سيراميك” مغلقة النوافذ إلى خارج المدينة حيث كانت سيارتنا متوقفة لنكمل بها رحلتنا إلى القاهرة.
في يومين لقى 32 شخصاً حتفهم جراء اشتباكات جاءت اعتراضاً على حكم باعدام 21 متهماً، ولازالت القضية تنظر حتى وقتنا هذا، لكن يومي 26 و 27 يناير 2013 ستظل في ذاكرة بورسعيد وذاكرتي للأبد.
اقـرأ أيضًـا:
.