نرمين سعد الدين
في يوم ليس ببعيد ربما من شهرين على الأكثر كنت في مناقشة جدلية كالعادة، فالموضة تلك الأيام هي التشكيك في كل ما هو إسلامي أو في الرسول وخلافه، أنا اعتدت ذلك سواء في الواقع أو في السوشيال ميديا، والحقيقة كثير من تلك النقاط سبق وتحدثنا فيها كثيرًا ومنذ سنوات وترددت في الكتب والمنتديات والندوات، لكن لم أتوقع أبدًا أن تكون تناقش وترد في أمور جلها تاريخية بحتة والرد عليها متخم به الكتب فتجد فجأة من يناقش يقول وكله فخر (طب أنت عارفة بقى أن الصيام ده مش من الإسلام وموجود أصلًا من زمان)!!.
في الحقيقة بهت ليس لمفاجأتي من السؤال ولكن من سذاجة الطرح والذي ينم إما عن جهل من السائل بأبسط أمور دينه أو استهانه باللذي سؤل، وبالرغم من أني لست بضليعة في أمور الفقه والعبادات لم أجد صعوبة البته في الرد وبتعجب كمان فمن الثابت أن “الصيام” لم ترتبط فرضيته، أو وجوده بأمة محمد -صلَّى الله عليه وسَلَّم- كما يخبرنا الله سبحانه في كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم)).
ولا أعلم حتى الآن ما العجب في أن يكون الصيام كشعيرة أو طاعة موجود في أمم من قبلنا سواء في حضارات عرفت الدين وعبادة الله الواحد الأحد أم حضارات أعدت لنفسها ديانات خاصة وطقوس وممارسات كهنوتية ووثنية، فمن الثابت أن عبادة الله الواحد الأحد انتقلت للأرض منذ هبوط آدم بعد قصة الغواية الشهيرة والعصيان وتوعد الشيطان لبني آدم بأن يزيغهم عن الحق ويبعدهم عن عبادة الله بكل الطرق، وطبيعي أن ينتقل عبادة الله من جيل لجيل ومن مكان إلى مكان أو انتقل إليها سواء من رسل وأنبياء جاءوا إليهم حتى انحرفوا إلى الوثنية واحتفظوا ببعض مظاهرها كالصيام، أو انتقل إليهم من أمم أخرى، أو لأنهم توصلوا بفطرتهم إلى أهمية الصوم خاصة أن الله ذكر في كتابه العزيز أنه قص علينا من قصص الأنبياء ومنهم من لم يقص، أي أن هناك سير أنبياء لم تعرفها حتى الآن وأمم لم يذكر لنا منهم إلا ما وصلنا عبر التاريخ وكتب المؤرخين ومشاهدات الآثار والبرديات.
ولكن هل كان صيام الأمم السابقة سواء الدينية أو اللا دينية كصيام الأمة الإسلامية، أم اختلف في نوعه وطبيعته وعدده؟ هذا ما سوف نستجليه في السطور القليلة القادمة.
أولًا شريعة الصيام عند الأمم السابقة للإسلام والحضارات القديمة
يختلف الصيام في الحضارات القديمة، فلكل حضارة صيام خاص بها من مناسبات وطقوس وأسباب وعدد، ففي الحضارة الفرعونية مثلًا كان يصوم الناس فيها في الأعياد والمناسبات مثل الصيام لنهر النيل، أو الصيام للتقرب من الآلهة
ويقول بعض الباحثين أن كلمة صوم موجودة في قاموس اللغة المصرية القديمة وتعني “امتنع عن”، كذلك يقال أن كلمة الصيام قد استقرت في اللغة التيوتونية للشعوب الألمانية، والإسكندنافية، والإنجليزية، وفي اللاتينية، واليونانية
وكان كهنة مصر القديمة يحتفلون برؤيه الهلال وهم يحملون المصابيح الزيتية والمباخر وهم ينشدون “واح وي.. واح وي.. إياح”: “واح” بمعنى (أظهر) و “وي” تعنى النداء فكلمة “واح وي” بمعنى (أظهر يا)، أما كلمة “أي ياحا” فتتكون من: “أي” بمعنى (جاء) و”ياحا” بمعنى (القمر) فيكون المعنى “جاء القمر” وتكون (وحوي وحوي إياحا) وكان هذا الاحتفال يستمر طوال الليل وحتى مطلع الفجر.
وقد عرف المصري القديم أهمية الصوم في الحفاظ على الصحة وتهذيب النفس والتخلص من الذنوب والحصول على بركات ورضاء الله؛ فكان الصوم ثلاثين يومًا ولكن اختلف صيام الشعب عن صيام الكهنة فكان الكهنة يصومون من أسبوع إلى ستة أسابيع في السنة، كما كان هناك عيد للصوم مخصص لإرضاء أرواح أمواتهم المحرومين من الطعام، أما لمن أراد أن يصبح خادمًا للمعبد، فكان عليه أن يصوم سبعة أيام متتالية من غير ماء، وكان هناك نوع آخر من الصوم لا يسمح فيه بأكل أي نوع من الطعام باستثناء الماء والخضروات لمدة 70 يومًا.
وفي الحضارة اليونانية كان يصومون قبل الخوض في أي معركة، لكي يكون تدريب لهم على ظروف الحرب القاسية، كما كان الصينيون يصومون كثيرًا من الأيام العادية، وكان ملكهم يمتنع عن الطعام والشراب مدى سبعة وعشرين يومًا ليخلص إلى معبوده.
كما احتل الصيام مكانة بارزة عند فارس، والهند فالهندوس لهم طقوس عديدة في الصيام، وتختلف باختلاف الأله المتبع، وحتى المناطق التي يتواجدون فيها، ففي جنوب الهند يصومون من شروق الشمس إلى مغربها ويسمح لهم شرب السوائل، أما المناطق الشمالية فالمسموح تناول الفاكهة والحليب فقط، وعندهم ما يطلق عليه صيام الفصول، ويمتنعوا عن تناول الطعام من غروب الشمس لشروقها لمدة تسعة أيام في بداية كل فصل، وهو صيام غريب الطقوس قليلًا، وهناك من يصوم حسب الأله فمن يتبع الأله شيفا يصومون الاثنين واتباع الأله فيشنو يصومون يوم الخميس، يوجد نوعٌ آخر من الصيام يسمى ”كارفا شوت“، وهو عيد سنويٌ تصوم به النساء المتزوّجات من أجل سلامة وصحة أزواجهن، ولكن في العموم فإن الهندوس في صيامهم يمتنعون عن تناول اللحوم، كذلك صيام البوذيون لمدة أربعة أيام فقط وهي أول أربعة أيام من الشهر القمري، وهذا الصيام يختلف عن غيره في امتناع معتنقين البوذية عن الطعام والشراب وامتناعهم عن العمل أيضًا خلال فترة الصيام.
أما عند البابليين كان الصيام أيضًا للأله سين مشابهًا للسومرين والآشورين مقترنًا بانانا أو عشتار باعتبار أن القمر رمز للأنوثه وكان اكتمال القمر يعني فترة حيض انانا – عشتار، وعند اكتمال القمر يحجم البابليون عن الصيد والأكل حتى غيابه مجددًا.
وعرفته طائفتا المانوية، والصابئين والحرانيين من عبدة الكواكب وكان صيامهم مرتبط بالقمر لأنهم كانوا يقومون بعبادة الكواكب والأقمار، وكانوا يتركون الطعام والشراب والجنس أثناء الصيام ليرضون الأله سين (القمر)، ويبدأون في الصيام منذ شروق الشمس حتى وقت المغرب، وهناك بعض منهم يتركون الكلام ويمتنعون عنه أثناء الصيام، والبعض الآخر كان يقوم بتقديم حيوانات مذبوحة للآلهة، أثناء فترة صيامهم.
أدخل الحرّانيّون الصّوم إلى جزيرة العرب، ففي العام 552 ق.م احتلّ الملك البابليّ نابونيدوس شمال جزيرة العرب، تاركًا بابل في عهدةِ ابنه بعد خلاف مع كهنة البابليّين الذين اعتبروا إلههم ”مردوخ“ كبير آلهة بابل، بينما كان الملك نابونيدوس يعبد القمر، كان رمضان يمارس في مدن عديدة في شمال جزيرة العرب، حيث حكم نابونيدوس، وكانت يثرب -التي تغيّر اسمها لاحقًا إلى المدينة- واحدةً من تلك المدن.
وكانت قريش تصوم يوم عاشوراء، ليس تمثلًا باليهود، ولكن لأنه قيل إن قريشًا أذنبت ذنبًا في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم صوموا عاشوراء، فإنه يكفر ذلك، كما عرفه أيضًا العرب عامة في الجاهلية، ويذكر المسعودي في “مروج الذهب” أن خالد بن سنان العبسي كان يأمر قومه بدين غير دين الوثنية فيأمرهم بالصوم والصلاة، كما كان عمران بن عامر من العرب، يكثر من الصوم ويأمر به قومه ويقول: إنه ضروري لنور النفس، وكان عند صومه يعتزل الناس.
وشاع الصيام كذلك في حضارة الأمريكتين القديمة فنجد الكولومبيين الأوائل سكان بيرو اعتبروا الصوم كفارة أو عقاب عن الذنوب والخطايا بعد اعتراف الفرد بها أمام الكاهن، ومورس الصوم غالبًا قبل وأثناء طلب الرؤية بين هنود شمال أميركا سكان السهول الكبرى وشمال غرب الباسفيك، وعرف الصوم عند الهنود الحمر سكان جنوب غرب أميركا كمظاهر مصاحبة للاحتفالات عند تغيير الفصول الموسمية.
ثانيًا: شريعة الصيام عند الأنبياء وأصحاب الديانات السماوية
يذكر أن أول من صام رمضان هو نوح عليه السلام بعد أن أنجاه الله والمؤمنون معه بالسفينة من الطوفان الذي أهلك القوم الكافرين، كما كان سيدنا إبراهيم يصوم عن الطعام والشراب ساعات كثيرة في اليوم والليلة، وكان ذلك يتكرر منه كل شهر، وكان “الصابئة من أتباع النبي “إدريس” يصومون من الفجر وحتى غروب الشمس.
وقد ثبت أن نبي الله داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، أما صيام نبي الله موسى نفسه فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي أن موسى صام أربعين يومًا متتابعة عندما أراد أن يكلم ربه بعد حادثة عبادة العجل المعروفة وكان يصوم قبل هذا أيامًا مختلفة من كل شهر.
كذلك فرض الصيام على اليهود في اليوم العاشر من الشهر السابع واليوم التاسع من الشهر الثامن في السنة، ولكنهم يعتقدون أنه لم يفرض عليهم من الصيام إلا صيام عاشوراء، الذي قيل إنهم يصومونه إحياءً لذكرى نجاة نبيهم موسى ومن معه من فرعون ويعتقدون أنه لم يفرض عليهم من الصيام إلا هذا اليوم فقط، فترى دائرة المعارف اليهودية أن الصيام الوحيد الذي لم يرد غيره في التشريع الموسوي هو صيام يوم الغفران (يوم كبور)، ويبدأ اليهود صيامه قبل غروب الشمس بنحو ربع ساعة إلى ما بعد غروب الشمس في اليوم التالي بنحو ربع ساعة، فهو لا يزيد بحال عن خمس وعشرين ساعة متتالية وما زال فيهم حتى اليوم.
وتعدّ فريضة الصيام من أقدم التشريعات اليهودية ويتسع مفهوم الصيام كثيرًا لدى اليهود؛ وسبب ذلك راجع إلى اجتهاداتهم في إيجاد أنواع منه، معظمها مرتبط بالحدث التاريخي، وما أفرزته طبيعتهم العدائية للأمم التي عايشوها، أو عاصروها، والتي غلب عليها طابع الحزن نتيجة تعرضهم للمحن.
فنجدهم في الأسر البابلي صاموا أربعة أيام هي: 1- صوم الشهر الرابع من تموز: في ذكرى تدمير أورشليم والهيكل 587 ق. م، لكنهم تركوا هذا الصوم بعد إعادة بناء الهيكل، 2- صوم الشهر الخامس من آب، 3- صوم الشهر السابع من شهر تشرى، 4- صوم الشهر الثامن من شهر تبيتو، وكان بعض الربانيين يعدُّون صوم هذه الأيام واجبًا عند الأزمات، وهناك أيام أخرى للصوم وضعوها لإحياء ذكرى بعض الأيام، خاصّة أيام النكبات، ولم يتقبلها عامة الناس.
والصوم لديهم نوعان: الأول فردي ويسمى صوم الأسر، ويقع في حالات الحزن الفردي، أو عند التكفير عن خطيئة، والأخر جماعي وهو غير ثابت وغالبًا ما يفعلونه عند حدوث حزن عام يقلقهم، كالصوم عند رداءة المحصول، أو غارات الجراد، أو الهزائم في الحروب، وقد ظهر عند اليهود ما يسمى بصيام الصمت، وهو استغراق الصامت في صمته، ضاربًا على نفسه ثوب التوبة من الخطايا والندم على ما اقترفه اللسان من بذيء الكلام.
كذلك ورد أن نبي الله عيسى صام أربعين يومًا متتابعة قبل بدء رسالته، وبعد أن بعث الله عيسى رسولًا فرض الله عليهم صيام شهر، وزادوا الشهر إلى الربيع فيما بعد، فعن دغفل بن حنظلة عن النبي -صلَّى الله عليه وسَلَّم- قال: ((كان على النصارى صوم شهر، فمرض ملك منهم، فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشرة، ثم كان ملك آخر فأكل لحمًا فأوجع فاه، فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن سبعة، ثم كان ملك آخر فأكل لحمًا فأوجع فاه، فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن سبعة، ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمن السبعة (أي إلى عشرة) ونجعل صومنا في الربيع، فصارت خمسين يومًا)).
ويرى فريق من النصارى أن المسيح عليه السلام لم يفرض عليهم صيامًا إلا الصوم الكبير (صوم يوم الكفارة) السابق لعيد الفصح، ومع ظهور البواكير الأولى للتشريع الكنسي تحددت بعض معالم الصيام، وما يجب تناوله من طعام، وما لا يجب عندما عرف الصيام بأنه “شريعة كنسية تكيفها الكنيسة حسب مقتضيات الزمان والمكان”، ويمكن تقسيم الصيام حسب الطوائف فكل طائفة لها طقوسها وعدد أيام صيامها يمكن الاستزادة ومزيد من تفاصيل صيام كل طائفة بالرجوع إلى كتاب د. علي الخطيب: الصيام من البداية حتى الإسلام.
وفي الإسلام يفرض الصوم فهو يفرض عبادة عرفتها أمم سابقة، ولأنه الدين الذي لا دين بعده فهو حينما يشرع فريضة فإن التدرج أساس من قواعد التشريع الإسلامي لتهيئة النفوس لاستقبال عبادة من العبادات، حتى إذا أحست النفس لها حلاوة واطمأنت بها، أكمل الله كل الأسس والقواعد التي تحكم العبادة التي شرعها، وهي هنا في هذا المقام، الصيام الذي بدأ بصوم عاشوراء وتاسوعاء كما بينا في بدء هذا الحديث، كما بدأ الصوم أيضًا في الإسلام، بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، حتى إذا كانت السنة الثانية من هجرة الرسول إلى المدينة نزل أمر الله قرآنًا بالصيام.
وهكذا صديقي القاريء لا تندهش إذا ما علمت أن العبادات التي اعتاد أن يؤديها عامة المسلمين يوميًا كالصلاة والتسبيح، أو سنويًا كالصوم، أو مرة في العمر أو أكثر حسب الاستطاعة كالحج، كانت في الأصل ممارسات حاضرة على مر الزمان والعصور، إما في الحضارات القديمة، وإما في الشرائع السماوية أو الوضعية، فالإنسان القديم عرف العبادات وحرص على إقامة الشعائر والطقوس في الأرض إرضاء للذات الإلهية وتحقيقًا لرضا الروح الإنسانية خاصة إن التوحيد وعبادة الله الواحد هبطت إلى الأرض مع هبوط آدم، ويحتمل أن الأمم الوثنية التي عرفت تلك العبادات كانت قريبة عهد بدين سماوي وبالتالي هي أولى بأن تعرف مكانتهم وقدرهم.
نرشح لك: محمود ربيعي يكتب: أصوات رمضان.. “قيثارة السماء” الشيخ رفعت