تمنيت أن أكون معهم، أطفئ شموع عيد الميلاد لصديقى الفنان الكبير جورج سيدهم، كان جورج أحد أهم معالم رمضان فى زمن تليفزيون «الأبيض والأسود»، لدينا عبر التاريخ عشرات من فنانى الكوميديا انتزعوا من قلوبنا الضحكات الصافية، لكن جورج بالنسبة إلىّ هو الكوميديان الدافئ.
جاء عيد ميلاده قبل رمضان بأيام لأستعيد زمنا كان مليئا بالومضات والوهج الإبداعى. جورج حاضر فى الحياة، محتفظ بكل قواه العقلية والإدراكية، فقد جزءا كبيرا من القدرة على الحركة، لكن لا يزال متابعا جيدا لكل ما تبثه الفضائيات، أحرص بين الحين والآخر على أن أستمع إلى صوته فى الأعياد، مستعينا بزوجته. كثيرون يتوجهون بالشكر والعرفان إلى زوجته الصيدلانية د.ليندا، حيث تزوجا بينما كان جورج مضربا عن الزواج، شاهدها فى الصيدلية بعد أن وصل إلى شاطئ الخمسين من عمره، فأصبحت هى دواؤه الدائم، وبعد سنوات قليلة أقعده المرض، الزوجة المحبة منحت الكثير لجورج، ولا يدركون -كما قالت لى هى أكثر من مرة- أن جورج يمنحها ما هو أكثر.
كنت قريبًا من جورج، ووجّه إلىّ الدعوة لحضور فرحه فى الكنيسة، وبعدها أكملنا السهرة فى أحد الفنادق الكبرى، أتذكر جيدا أن شفيق جلال غنّى لصديقه «شيخ البلد خلّف ولد»، ثم استبدل بها فى الإعادة «قسيس البلد خلّف ولد».
وكنا نضحك على تلك الطُّرفة، فكيف يتزوج القسيس! لم يترك لنا جورج رصيدا كبيرا بالعدد، لكن ما أبدعه لا يغادر مشاعرنا، ونحنّ إليه كثيرا، يكفى أن نتذكر من بين أفلامه التى قدمها فى المرحلة الأخيرة «الشقة من حق الزوجة» لعمر عبد العزيز، و«الجراج» لعلاء كريم.
شكّل الثلاثى «جورج» و«سمير» و«الضيف» علامة فارقة فى مطلع الستينيات، وتستطيع أن تطلق عليه جيل «الكاميرا التليفزيونية»، لأن ما سبق كان هو جيل ميكروفون الإذاعة، نجوم «ساعة لقلبك»، هذا البرنامج الشهير الذى شهد انطلاق عبد المنعم مدبولى وفؤاد المهندس وأمين الهنيدى ومحمد عوض و«أبو لمعة» محمد أحمد المصرى و«الخواجة بيجو» فؤاد راتب و«شَكَل» محمد يوسف و«الدكتور شديد» محمد فرحات، وأسماء عديدة أخرى، بعدها بسنوات قليلة ومع مطلع الستينيات ظهر هذا الثلاثى باعتباره معادلا موضوعيا لزمن التليفزيون. الثلاثية تعنى أن تُضحّى بنجوميتك كفرد لصالح المجموع.
كان الجمهور يقسم حبّه بين الثلاثة: جورج بملامح الطفولة، التى لم تغادره حتى الآن، وينشرح قلبك بمجرد رؤيته، بينما سمير غانم الطويل الأصلع قبل أن تلازمه باروكة، وكان قادرا على سرقة الضحكات، الضيف أحمد أقلهم جسدا، وكنا نراه العقل المفكر وصاحب الحضور الطاغى، ورحل الضيف مبكرا عام 70، واستمر الثنائى يحملان لقب الثلاثى بعد أن فقدا العمق الاستراتيجى، حيث فشلت محاولاتهما مع عادل إمام ليكمل الضلع الغائب.
الجماهيرية الطاغية تحققت لهما، ومن خلال فوازير الأبيض والأسود، التى كانت هى الملعب الأساسى لانطلاقهما عندما وقع اختيار المخرج محمد سالم عليهما، ومعهما الشاعر خفيف الظل حسين السيد، الذى كان يكتب على الهواء، كان جورج لديه حالة من الشجن النبيل، يمنحها للشخصية، أتذكر دوره فى إحدى الفوازير «أحدب نوتردام» فكان ينشد «يا بختك يا حجر يا ريتنى كنت قاسى وقلبى من حجر يا بختك يا حجر»، المساحة الإبداعية، التى تحرك فيها جورج على ضآلتها، تألق فيها، وترك خلالها بصمة، وحضورا دافئا على الشاشة، ولا يزال نابضا بالحياة.
لا أحد يصادر على الزمن القادم، ولا نعلم بالضبط ما الذى تخبئه الأيام حتى لو كان الطب قد قال كلمته، فأنا أرى دائما وميض الرضا والنور على وجه جورج سيدهم، وأشعر أن هذه الومضة ستبرق مجددا.
نقلاً عن جريدة “التحرير”