عبد البصير حسن مدفع الإفطار
أتذكر هذه التبة المرتفعة قليلا بوسط الشارع الرئيسي بالقرية، والتي استقر عليها أحد مساجد القرية الثلاثة، في ذلك الحين قبل أكثر من أربعين عاما، وقبل سنوات من حلول الكهرباء إلى بلدتنا، لم يكن مكبر الصوت رمادي اللون الذي كان يعلق على منارات المساجد في المدن قد وصل بلدتنا بعد في تلك الفترة نهاية سبيعنات القرن الماضي، لذا كان مؤذن الجامع يصعد درجا خشبيا في مدخل المسجد ليقف على بسطة خشبية نهايتها مكشوفة من كل جانب بموازاة السقف، ويصيح بالأذان خمس مرات يوميا.
المدهش أن صوته من هذا المكان المرتفع نسبيا، وفي ظل غياب الضجيج أو الضوضاء وقتها كان يصل الى المزراعين في الحقول المجاورة، لا سيما من كانوا في إتجاه الريح القادمة من الشمال للجنوب، لم يكن هذا كل دوره فقط في المسجد، فقد كان عليه وهو الرجل المسن في هذا الزمن، أن يجلس بين كل صلاة على عامود حجري اسطواني الشكل ممسكا بيد حديدية لمضخة مياة عتيقة يخرج منها أنبوب يحمل الماء من باطن الأرض صوب خزان واسع يغذي “الميضة” أو صنابير الوضوء وكذلك صنابير دورات المياه في أقصى نقطة عند الحافة الجنوبية للمسجد.
كان ذلك هو مصدر الماء الوحيد في هذا الجامع، الذي كان سقفه الخشبي يستند إلى أربعة أعمدة حجرة اسطوانية بطول نحو ثمانية أمتار تقريبا وكان الحصير المصنوع من القش فراش أرضيته، لم تكن شبكة مياة قد امتدت في الشوارع القرية بعد، ولم يكن باطنها ملوثا برواسب الصرف الصحي، كما هو الحال الآن.
أتذكر هذا الجمع من الأطفال بين الثالثة والعاشرة، وكنت بينهم يتجمعون عند المسجد قبل غروب الشمس بنصف ساعة في شهر رمضان كل عام انتظارا لإنطلاق مدفع الإفطار عبر مذياع داخل المسجد يؤشر لحلول صلاة المغرب، يعقبه نداء “الله أكبر” وقت أذان المغرب من المؤذن في موقعه العالي نهاية السلم الخشبي، لينطلق الجميع بسرعة البرق مهللا كل نحو بيته ليلحق بعضا من التمر المخزن لهذا التوقيت “البلح المدكوك أو العجوة المنزلية” أو كوبا من “التمر السائل” المبرد بكتل صغيرة من الثلج تم شراءها من بائع الثلج قبل وقت قصير من الأذان.
مشروب ” التمر” لم يكن سوى “عبوات السكر المخلوط بالصبغات المختلفة” وكاد يكون المشروب الوحيد وقتها، إذ لم تكن تجارة الياميش وغيرها رائحة في تلك الأوساط الريفية البسيطة في تلك الأيام، أتذكر أنا كنا نلتف حول “طبلية” أمام باب بيتنا المطل على ترعة في ذلك الصيف ووسيلة التسلية كانت فوازير رمضان التي كانت تقدمها الرحلة أمال فهمي قبل انتقالنا لفوازير نيلي، وسميرغانم، لاحقا عبر التليفزيون الذي لم يكن يملكه كثيرون في حينه.
لم يكن عصر المحركات بضجيجها ممثلا ” الموتور” بلغ القرية بعد، عدا في سيارة فيات 124 واحدة أو أكثر لدى شخص واحد أو اثنين كان يعملان عليها في المركز ويعودان في المساء للقرية، كذلك لم تكن أيضا ماكينات الحصاد أو الري بلغت قريتنا بعد وكانت الأنشطة المرتبطة بالزراعة كلها يدوية حتى السنوات الأولي من ثمانينات القرن الماضي.
الموتور الأول الذي قريبا هو ذلك الخاص بمكاينة الطحين على حافة القرية وكانت تعمل بالديزل وله حزام جلدي بطول نحو عشرة أمتار يقوم على تشعيل حجرين اسطوانين ضخمين يهرسان الحبوب بدوران أحدهما فوق الأخر الثابت، لم تكن الشوارع تمر بيها أي من هذه الألات التي تستخدم الموتور أو المحرك ومن ثم كان مساحة رحبة نلعب بها تحت ضوء القمر في الليالي المقمرة أو تحت جنح الظلام في باقي الليالي دون خوف أو ريبة، لا أعلم من أين جاء هذا الإحساس الدائم بالأمان رغم صغر سننا ناهيك عن عدم خشية والدينا علينا في أي من تلك الليالي مهما ابتعدنا عن البيت أنا وأقراني أوتحركنا في كل شوارع القرية المظلمة.
كانت لنا ألعاب مسائية وأخرى نهارية، بالإضافة إلى “الأستغماية” الشهيرة، كنا نلعب “الإستمج” وهي عبارة عن كرة من القماش يخفيها أحد الآطفال بين رجلي طفل أخر من مجموعة جالسة على الآرض وأرجلهم ممدوة ومغطاة بالجلباب، وعلى طفل آخر أن يشير من أول مرة إلى من يحتفظ بالكرة القماش بين رجليه حتى يتمكن من الجلوس وإلا استمر في البحث عند تكرار اللعبة كل مرة دون تغيير لدوره.
كنا نعلب ” المٌطاعنة ” بأن يمتطي أحدنا ظهر زميله الواقف واضعا ركبة إحدى قدميه بين يدي زميله المتشابكتين خلف الظهر ويدفع برجله الأخرى بقوة زوج آخر على نفس الهيئة، والفائز هو من يسقط الفريق الأخر أرضا بضربة قدم قوية، كنا نلعب في النهار “العٌقلة” وهي تشبه لعبة الهوكي لكنها من مضرب بطول متر تقريبا من سعف النخيل الجاف وقطعة أخرى “العُقلة” بطول ثلاثين سنتميترا تقريبا أيضا من سعف النخيل، توضع الصغرى على قائمين من الطوب أو الحجر ويرفعها اللاعب في الهواء بالقطعة الطولي قبل أن يضربها بقوة لتصل إلى أبعد مسافة ممكنة، الفائز كان من يقذف العقلة إلى أبعد مسافة ممكنة.
كنا نعلب “السيجة” وهي خانات بعدد معين في مساحة مربعة من التراب توضع بها بحسبة معينة قطعا من الفخار، وأيضا كنا نعلب “الإلان” جمع “آل” وهو قطعة صغيرة من فخار مهشم يتم رميها في الهواء ويستقبلها كف اليد مقلوبا وما ثبت على الكف يحسب في صالح الفائز، كان ذلك في نهاية سبعينات القرن الماضي وحتى منتصف ثمانينات القرن عندما حلت الكهرباء.
كبر الجمع تدريجيا لكن عادة الوقوف أمام المسجد في انتظار مدفع الإفطار في رمضان بقيت فيما بدا لدى كثير من الآطفال في القرية حتى العام 1992 عندما تم إغلاق المسجد لعدد من السنوات لإعادة بناءه بعدما تأثر بزلزال 1992 الشهير ولم يعاد بناؤه إلا بعد عدة سنوات كانت فترة كافية لهجر هذه عادة انتظار مدفع الإفطار عند المسجد من قبل أطفال القرية سيما مع انتشار أجهز التليفزيون في كل منزل وجاذبية المسلسلات والفوازير وغيرها.
كانت التسلية والترفية في أيامنا جماعية علمتنا الشجاعة وعدم الأنانية وروح الفريق وإيثار الغير والتوادد والرفق بالغير، لعب جماعي شكل شخصياتنا لاحقا وكان له كبير الأثر في اتجاهتنا في الحياة ولا يزال.
نرشح لك: مذكرات طفل ريفي (7).. الأستاذ عمر