نجيب محفوظ يرى من يكتب العامية جاهل ويحيى حقي يراها لا تصلح للكتابة بالأحرف العربية
عزيز أباظة يشن هجوما على كُتاب العامية.. وأحمد بهاء الدين يرد
في الدورة 51 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، انتشرت ظاهرة الكتب المكتوبة بالعامية، وهى ظاهرة بدأت منذ سنوات مع كتابات بعض الشباب الموجّه لفئات معينة من القراء ولكنها في المعرض الأخير زادت واستفحلت بحجة أن هذه اللغة هى التي تصل للقراء حديثي العهد بالقراءة والأسهل فهما لهم، الأمر الذي أثار جدلا في الأوساط الثقافية بين مؤيد ومعارض.
ويبدو أن النقاش والصدام بين الكتابة بالعامية والفصحى ليس جديدا على حياتنا الأدبية ولكنه قديم تداخلت خلاله نقاشات وصدامات ومعارك فكرية عديدة وسنرصد في هذا التقرير عدة مواقف وآراء لعدد من كبار الكتاب والمفكرين حول الكتابة بالعامية والفصحى من بينهم وغيرهم من الكتاب في فترة الخمسينات والستينات، وذلك على النحو التالي:
اللغة التي يفضلها نجيب محفوظ في الكتابة
في البداية نشرت مجلة آخر ساعة في مطلع عام 1956 تحقيقا وحوارا بعنوان “القصة الطويلة ماتت إلى الأبد !! ” ثم عنوان أسفل منه يقول “إذا اردنا أن نحرص على يادهوتي”
يناقش التحقيق قضيتين هامتين، القضية الأولى هى القصة الطويلة ومستقبلها وهل ماتت كعمل فني أمام القصة القصيرة في ظل القراء المستهلكون والعصر الذري ومشاكل الناس التي تتطلب جهدا أيسر في الكتابة والقراءة على السواء، والقضية الثانية هى قضية لغة الكتابة … هل تكون العامية أم الفصحى؟ وجرى الحوار مع ثلاثة أدباء وهم نجيب محفوظ ويحيى حقي وعلي أحمد باكثير. نجيب محفوظ رأى أن اللغة الأنسب هى ” الفصحى البسيطة” وهى لغة اليوميات والمذكرات والصحف وكتب المطالعة ويصفها نجيب محفوظ بأنها الفصحى المتطورة الهادفة للتعبير عن الروح المصرية وهى اللغة الوحيدة التي تقرأ في مصر دون عناء وفي جميع العالم العربي، ويبرر تعصبه ضد العامية بأنها لغة إقليمية ذات لهجات متعددة ولو قدر لها ان تحل محل العربية لأصيبت العقلية العربية في الصميم، بل لتمزقت الوحدة المصرية نفسها وعادت إلى الوراء.. إلى ما وراء عهد مينا موحد القطرين.
ويؤكد نجيب محفوظ على أن دعاة العامية واحد من ثلاث:
.جاهل باللغة العربية
.عالم بها، غير أنه موسوس في واقعيته لدرجة النقل الحرفي.
.عدو لها، لأسباب منافية لروح العصر الذي يجب أن يتطلع إلى التسامح والعالمية .
ظل نجيب محفوظ متمسكا برأيه في الكتابة بالفصحى وعدم إقحام العامية في الأدب حتى وفاته، وتمسكه بالفصحى في روايات تدور أحداثها وأبطالها في قاع الحارة المصرية وضعه محل نقد عنيف من بعض النقاد مثل الدكتور محمود أمين العالم والدكتور عبدالعظيم أنيس وغيرهما.
العامية بين المنطوق والمكتوب
أما يحيى حقي فقد كان رأيه أكثر دبلوماسية وحدة من نجيب محفوظ فقال إن الحديث عن الفصحى والعامية يحتاج إلى دراسة تطور هاتين اللغتين عندنا في الحقبة الأخيرة لنرى ماذا حل بكل منهما، فإذا كانت بعض الكلمات العامية تندس في كتابات الفصحاء فكثير من كلمات الفصحى قد وجدت مكانها في كلام العامة .. ثم هناك مسألة تحتاج إلى درس دقيق، هل العامية لغة منطوقة فحسب أو لغة تصلح للكتابة أيضا بالأحرف العربية؟!
ثم يسترسل “حقي” قائلا: أعتقد أن الله سبحانه وتعالى قد صان الفصحى من الابتذال بحرف واحد هو حرف ” القاف” الذي سميت به إحدى سور القرآن الكريم ولعلها أحد أسراره، ففي العامية تقلب “همزة” والهمزة في الأصل مشكلة من أكبر مشاكل كتابة الفصحى وكم ضربنا أساتذتنا في المدرسة حين نخطئ في رسم ألفاظ مثل لالئ و تلألأ وغير ذلك، فما بالك إذا كانت الهمزة في الأصل قافا. هل تكتب قال ” آل ” وإذا فعلنا فكم من القراء حين يرى هذا اللفظ يقرأه من فوره على صحته ؟. إلا يحتاج إلى شئ من التمعن حتى يعلم أنه ” قال ” . ألا يكون هذا اعترافا صريحا بأن اللغة العامية لا تصلح للكتابة بالحروف الفصحى؟
أسباب رفض “باكثير” للعامية
أما علي أحمد باكثير فيعرض وجهة نظره فيرى أن الذين ينادون باستعمال العامية لغة للأدب إما مخطئون واهمون أو مغرضون يهدفون إلى غرض آخر بعيد جدا عن الغرض الفني، ولو دقق الأولون النظر لأدركوا ان الواقعية الفنية غير الواقعية الزمنية والأولى هى روح الأدب منذ كان. ولو سلمنا جدلا بأن اللغة العامية تخدم هذه الواقعية الفنية في بعض الأحوال كالحوار الذي يدور بين أشخاص القصة فإن ما يخسره أدبنا بعدم استعمال اللغة الفصيحة السهلة التي يشترك في فهمها الملايين من أبناء البلاد العربية والملمين بها من أبناء الأقطار الإسلامية يفوق المزية المزعومة للغة العامية الضيقة التي تختلف حتى في القطر الواحد بين إقليم وإقليم.
ثم أختتم التحقيق الصحفي بعدة نتائج منها أن الدعوة إلى العامية دعوة إلى الانفصال عن تراثنا الأدبي القديم، وأن دعاة العامية يضعون العراقيل في خط تطورنا الأدبي والبلبلة في أذواقنا ومستوانا الأصيل وأن مصر لم تتبوأ مركزها الأدبي والعربي الجليل إلا بثقافتها وأدبها وعظمتها التي تتجلى في هذه الآثار المكتوبة، تًرى هل يؤمن عاقل واحد بأن تتخلى مصر عن هذه الأمجاد التاريخية حرصا على “يادهوتي” و”تلت التلاتة كام “؟!!
اقتراح بمزج العامية بالفصحى
في العام التالي وفي اجتماع جميعة الأدباء اقترح محمود تيمور اقتراحا جديدا لمزج اللغة العامية بالفصحى وهو التنقيب عن الكلمات العامية ذات الأصل الفصيح والتي يأنف الكتاب والادباء من وضعها جنبا إلى جنب مع الكلمات العربية الفصحى، لا لشئ إلا لأن العامة قد استعملوها وجرت على ألسنتهم في الشوارع والبيوت ” ماذا يحدث مثلا لو أنك وجدت وأنت تقرأ أحد كتب طه حسين كلمة “بصبص” أو “تشعبط” ما الذي يحدث؟! .. لا ينبغي أن يحدث شيئا .. فبصبص أصلها عربي تماما مثل تغزل أو ربما تكون أقدم منها أصلا.
ملخص دعوة محمود تيمور هى أخذ كلمات من العامية ذات الأصل الفصيح وتزويد الفصحى بها ولكن محاولاته وجدت اعتراضا شديدا من قِبل بعض الحضور فمنهم من اتهم دعوة تيمور بأن فيها شيئا من اساليب الإستعمار وثار تيمور قائلا : إنني لا أريد أن أنحط بالفصحى إلى العامية وإنما أريد أن ارتفع بالعامية إلى الفصحى.
خلاف بين عزيز أباظة وأحمد بهاء الدين بسبب العامية
الواقعة الأخيرة التي سنذكرها كانت في عيد العلم عام 1965 وفي ذلك الوقت كان عيد العلم قد تغير موعده من 17 أغسطس إلى 21 ديسمبر وذلك بدءا عام 1958 وتاريخه الأخير هو تاريخ افتتاح جامعة القاهرة وكان مناسبة سنوية لتقدير رموز الفن والأدب والعلم ومن ضمن من حصلوا على جوائز في عيد العلم كان طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وجمال حمدان وزكي نجيب محمود وفي عام 1965 كانت الجوائز من نصيب أم كلثوم وعبد الوهاب وعزيز أباظة وصلاح جاهين وراغب عياد وغيرهم وكان هناك تقليدا وعرفا متبعا بأن من يتحدث ويلقي الكلمة أمام الرئيس هو الحائز على الجائزة في الأدب وفي تلك السنة كانت الجائزة من نصيب عزيز أباظة الذي استغل الفرصة وصب غضبه على كتّاب العامية وهاجمهم هجوما عنيفا فوصفهم بـ” جماعات ليست كثيرة العدد ولكنها كثيرة المدد ” ثم ربط قضية العامية والفصحى ربطا خفيا بقضية الدين فقال :” يا سيادة الرئيس إن حماية مقدساتنا هى أكرم على الله من حماية حرية الهدم.!!” في ذلك الوقت كان الأستاذ أحمد بهاء الدين يتولى رئاسة تحرير مجلة المصور ويكتبت مقالا أسبوعيا بها مستخدما عنوانه الأثير الذي كتب به في جميع المجلات التي عمل بها وهو “أيام بلا تاريخ” فكتب مقالا عنيفا يرد به على كلمة عزيز أباظة وكان عنوان المقال دالا عما به من نقد شديد لعزيز أباظة فكان العنوان”حول كلمة عزيز أباظة المجافية لكل ذوق سليم!!” فيقول بهاء : أقل ما يمكن أن توصف به الكلمة التي ألقاها الأستاذ عزيز اباظة أمام الرئيس جمال عبد الناصر يوم عيد العلم هو أنها جاءت مجافية تماما لكل ذوق سليم، انتهز أباظة فرصة وقوفه على المنبر ليتكلم باسم الفائزين بجوائز الدولة فشن حملة هائلة ضد أدباء وفنانين آخرين لهم رأي مخالف لرأيه في بعض قضايا الأدب والفن وبالتحديد في قضية اللغة الفصحى والعامية، وأول شئ نسيه الأستاذ عزيز اباظة هو الصفة التي يتكلم بها فهو لا يتكلم باسم نفسه ولكنه يتكلم باسم مئات الفائزين بجوائز الدولة في شتى العلوم وهم لم ينتخبوه انتخابا ولم يبعثوا به إلى هذا المنبر بعد مناقشته واتفاق على ما يقال وما لا يقال”.
ثم يستطرد بهاء قائلا: الذي أحب أن أسجله هنا هو أنني في قضية الفصحى والعامية لا يختلف موقفي كثيرا عن موقف الأستاذ عزيز . فأنا من أنصار اللغة الفصحى وأنا أؤمن بصمودها لامتحان التطور وأؤمن بأنه إذا كانت الفصحى تتطور بالاتجاه إلى البساطة فالعامية سوف ترتقي اقترابا إلى الفصحى، ولكني أخالف الأستاذ عزيز أباظة في أمرين الأول هو أنني لا أوافق على أن يتخذ هذا الموقف ذريعة لشن حرب صليبية ضد الذين يقدمون محاولات فنية باللغة العامية ولا أقر الذين ينكرون على العامية قدرتها الفائقة على التعبير في بعض المجالات والأمر الثاني هو أنه كان يعلم مقدما أنه قد حصل على تقدير الدولة لقاء أعمال مسرحية باللغة الفصحى فوراءه في الصف آخرون حصلوا على تقدير الدولة لقاء أعمال مسرحية باللغة العامية كالمؤلف المسرحي سعد الدين وهبة فضلا عن صلاح جاهين ومرسي جميل عزيز وأم كلثوم وعبدالوهاب الذين يؤدون باللغة العامية ، فأي خروج عن الذوق وأي استغلال للفرصة أسوأ من أن ينتهز المتحدث بإسم الفائزين بالجوائز هذه الفرصة ليهاجم فريقا آخر من الحاصلين على الجوائز من نفس اليد وف ينفس المناسبة ؟ ثم يتحدث بهاء عن عبارة أباظة ” جماعات ليست كثيرة العدد ولكنها كثيرة المدد” متسائلا هل كلمة المدد هنا جاءت من باب البحث عن سجع سقيم أم المدد بمعنى الرشوة والعون المشبوه أي بمعنى اتهام هؤلاء بالعمالة؟!.
وهكذا نرى كيف كان السجالات والآراء قديما بين الكتاب والمفكرين حول الكتابة بالعامية أو الفصحى برغم أن موجة الكتابة بالعامية لم تكن قد استفحلت وزادت كما هى الآن ولكن تبقى العامية هى لغة أو لهجة إقليمية لا يفهما سوى أبناء إقليم ضيق بينما الفصحى والبسيطة منها هى الأقدر على الفهم والأقدر على استيعاب كافة القراء من كافة أرجاء الوطن الكبير.