عرفة محمد أحمد
حتى سنواتٍ قليلةٍ مضت، كانت الكتابة الساخرة مزدهرةً ومتواجدةً بقوةٍ فى المجلات والصحف لا سيما الأسبوعية منها، وتشهد الفترة الزمنية التي سبقت ثورة يناير على هذا الازدهار، خاصةً مع ظهور أسماء قدّمت وجباتٍ يوميةً من الكتابة الساخرة في الصحف، مثل الراحل جلال عامر الذي كتب في “البديل” و”المصري اليوم”، وحقق شهرةً واسعةً من خلال كتاباتٍ ممزوجةٍ بالنقد اللاذع للأوضاع السياسية والاقتصادية في فترة الرئيس الراحل محمد حسني مبارك.
وفي جريدة “الدستور” برزت أقلامٌ في الكتابة الساخرة حققت شهرةً مثل بلال فضل، عمر طاهر، وآخرين مثل: محمد هشام عُبيّه، أشرف توفيق، نانسي حبيب، لا سيما أنّ الجريدة في فترة الكاتب إبراهيم عيسى كانت تخصص صفحاتٍ كاملةً للكتابة الساخرة، كذلك هناك التجربة المهمة للساخر أحمد رجب على صفحات “الأخبار”.
والكتابة الساخرة ليست جديدةً على الصحافة المصرية؛ فبنظرةٍ تاريخيةٍ موجزةٍ نجد أنها ظهرت منذ نهايات القرن التاسع عشر، على يد يعقوب صنوع عام 1876 حينما أصدر مجلة “أبو نظارة”، ثم تلتها تجارب ساخرة أخرى مثل: “حمارة منيتي”، “الكشكول”، “خيال الظل”، “التبكيت والتنكيت”، “كلمة ونص”، “البعكوكة”.
وفي هذه الفترة المهمة كانت الكتابات الساخرة “فاكهة الصحافة”، وأثارت جدًلا واسعًا، وتسببت للعاملين بها في متاعب جمة من السلطات التي يزعجها هذا النوع من الكتابة الذي وجد إقبالًا من القراء.
والصحافة الساخرة قد يكون ظاهرها “الإضحاك” ولكن الهدف الحقيقي منها النقد والإصلاح؛ فالكاتب الساخر يُسلط الضوء على الحقائق والقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والسلبيات بطريقةٍ لا تستطيع التغطيات الإخبارية التقليدية تناولها، ودون مجاملةٍ في الكتابةٍ، ويظهر ذلك من خلال عدة صورٍ مثل: الصفحات أو الملاحق الساخرة، الافتتاحيات، المقالات، رسوم الكاريكاتير، القصص الإخبارية، القصص المصورة.
لكن المتابع للصحافة المصرية حاليًا، يجد أن الكتابة الساخرة “اختفت”، وخفت الحديث عنها حتى بين الكُتّاب الذين قدموا تجارب مهمة بها.
الروائي والشاعر أحمد عطا الله، الصحفي في مجلة “الإذاعة والتليفزيون”، كانت له تجارب في الكتابة الساخرة منها كتابه “الحتة بتاعتي”، فضلًا عن تجاربه الصحفية في هذا النوع من الكتابة.
يقول “عطا الله” لـ”إعلام دوت كوم” إنّ الكتابة الساخرة في الصحافة كانت “موضةً أو موجةً” خاصة منذ 2005، لافتًا إلى أنه يعتقد أنّ ذلك النوع من الكتابة له دور في الأحداث السياسية التي شهدتها مصر فيما بعد، مثل ثورة يناير 2011، لافتًا إلى أنّ إبراهيم عيسى كان له دور في ازدهار هذا النوع من الكتابة خاصةً في تجربة “الدستور” التي اعتمدت على صحافة الرأي.
كشف “عطا الله” عن تجربته الصحفية في الكتابة الساخرة، قائلًا: “بدءًا من 2005، شاركت في إصدار جريدة (اضحك للدنيا) برئاسة تحرير الصحفي والإعلامي خيري رمضان، ونائب رئيس التحرير حازم الحديدي، ومدير التحرير محمد فاروق، وكان عادل المصري، هو ناشر الجريدة”.
أضاف أنّ الجريدة ضمت صحفيين أصبحت لهم أسماءٌ معروفةٌ في مجال الكتابة الساخرة مثل: عمر طاهر، هيثم دبور، إيفون نبيل، ميشيل المصري، فضلًا عن اهتمام الجريدة وقتها بفن الكاريكاتير، وضمت الجريدة “مخلوف”، دعاء العدل، عمرو سليم، عبد الله أحمد، شريف حمدي.
وكشف عن أنّه كان يقدم في هذه الجريدة صفحةً أسبوعيةً باسم “ولاد الكار.. اللي يحبنا ميضربش نار”، تخصصت في كشف كواليس العمل الصحفي في الجرائد، مشيرًا إلى أنّه تعرض للعديد من المتاعب بسبب هذه الصفحة.
وعن سر ازدهار الكتابات الساخرة في ذلك الوقت، قال “عطا الله” إنّ مساحة الحرية كانت جيدةً، ومع ذلك كانت الكتابة الساخرة في الصحف “مزعجةً” جدًا، ويحكي: “في إحدى المرات نشرت موضوعًا حمل عنوان (24 ساعة وأنا تلاجة يا عالم)، فالأمن نزل لمّ الجرنال لأنه افتكروني بلقّح على مبارك وقتها، فضلت بعدها أسبوعين ممنوع من الكتابة، ورجعت، ثم مشيت”.
تابع: “رحل خيري رمضان عن رئاسة التحرير، ثم تولى مسئولية رئاسة تحريرها محمد فاروق، وكان مقرها فيلا في المهندسين، ثم توقفت التجربة”.
نوّه “عطا الله” بأنّ ازدهار الكتابة الساخرة في الصحف قبل ثورة يناير كان سببًا في ظهور دور النشر التي أقبلت على نشر كتاباتٍ في هذا المجال مثل “دار نشر ليلى”، وظهرت كتبٌ لـ عمر طاهر، بلال فضل، اللذين فتحا الباب لآخرين مثل: محمد هشام عُبيّه، نانسى حبيب، ميشيل حنا.
أكد “عطا الله” أنّه في الوقت الحالي لا يوجد الكاتب الساخر “النجم”، أو “المُلفت للانتباه” مثلما كان جلال عامر، أو حتى أحمد فؤاد نجم الذي كان له العديد من القصائد الساخرة، حتى عمر طاهر توقف في السنوات الأخيرة عن الكتابة الساخرة.
استكمل: “الكتابة الساخرة الآن موجودة على فيس بوك، هناك تريقة على الأحداث، ولكن هي للاستهلاك اليومي، ولكنها في الصحافة لم تعد موجودة”، مؤكدًا أنّه لا يوجد كاتب مخلص لمشروع الكتابة الساخرة الآن.
محمد هشام عُبيّه، الصحفي والسيناريست الشاب، كان له العديد من التجارب في مجال الكتابة الساخرة؛ منها صفحة “على جنب” التي كانت تُنشر في العدد الأسبوعي من جريدة “الدستور”، وقت رئاسة تحرير إبراهيم عيسى.
كما قدّم “عُبيّه” العديد من الكتب في مجال الكتابة الساخرة منها “الإنسان أصله جوافة”، “عزيزي 999″، “الحالة ميم”، وحصل على جائزة نقابة الصحفيين في الكتابة الساخرة عام 2010.
يتحدث “عُبيّه” عن تراجع الكتابات الساخرة في الصحف، قائلًا إنّ هذا الأمر مرتبطٌ بانخفاض مستوى الحريات؛ لا سيما أن هذا النوع من الكتابة يحتاج إلى سقفٍ عالٍ.
أضاف لـ”إعلام دوت كوم” أنّ الكتابات الساخرة أحيانًا تأخذ حقها بيدها، وأحيانًا تكون الضغوط أقوى منها، مشيرًا إلى أن أكبر دليل على اختفاء الكتابة الساخرة الآن أن نقابة الصحفيين حجبت الجائزة المخصصة لها هذا العام.
وعن تجربته في الكتابة الساخرة بجريدة “الدستور” قال عُبيّه: “الدستور في فترة إبراهيم عيسى بشكلٍ عامٍ كانت روحها ساخرةً من الوضع السياسي والاجتماعي في فترة حكم مبارك، وهذه السخرية ظهرت في المانشيتات والعناوين، وكانت بها صفحات كاملة للكتابة الساخرة يكتبها بلال فضل وعمر طاهر”.
وأكد أنّ الكتابات الساخرة لها جمهورها، لكنها في الوقت نفسه مزعجةٌ للمسئولين الذين لا يستطيعون الرد عليها، فلا يملكون غير التهديد والوعيد.
يُقدم الصحفي حسن شاهين تجربةً مستمرةً حتى الآن في الصحافة الساخرة عبر صفحات جريدة “فيتو” الأسبوعية التي يرأس تحريرها الكاتب عصام كامل.
يكشف “شاهين” لـ”إعلام دوت كوم” قصة ظهور هذه التجربة قائلًا، إنّ الكاتب عصام كامل، هو صاحب فكرة الملحق الساخر الذى كان يصدر على مساحة 8 صفحات كاملة فى السنوات الأولى لصدور الجريدة.
وأضاف أن “كامل” هو بطبعه كاتب ساخر؛ لأنه كان يكتب مقالًا أسبوعيًا ساخرًا فى جريدة “الأحرار” التى رأس تحريرها أيضًا، وأن هذا المقال كان يحمل عنوان “فيتو” الذي سُميت على اسمه الجريدة فيما بعد.
أشار “شاهين” إلى أن ملحق “ساخرون” في “فيتو” ضم عددًا كبيرًا من الشخصيات الكرتونية الساخرة التي أصبحت أشهر منه شخصيًا، متابعًا: “أنا تقريبًا مش بكتب حاجة باسمي في الملحق، مفيش غير عبارة يستضيفهم حسن شاهين”.
أكد أنّ معظم كتاباته الساخرة تكون من خلال شخصياتٍ وهميةٍ، وأن هذه هي الطريقة التي يهرب بها من التقييد في الكتابة، مستكملًا: “مثلًا عملت شخصية إسماعيل ياسين، اللي بيروح لكل مكان يتناوله بنفس الأسلوب الساخر للفنان الشهير، وقدمنا حلقاتٍ منه مثل: إسماعيل ياسين في لجنة شئون الأحزاب، وإسماعيل ياسين في البرلمان، وفي وزارة التنمية المحلية، وفي المرور”.
أردف: “عندنا شخصية محمود شكوكو اللي بيتناول الواقع الساخر من خلال مجموعة من المونولوجات فيها إسقاط سياسي أحيانا، واجتماعي أحيانا أخرى، وكذلك شخصية ضاربة الودع، من خلال صفحة أبيّن زين، واللي بتضرب الودع للوزراء والمسئولين وتقول على المستخبي واللي مش ممكن يبان”.
أشار “شاهين” إلى شخصيات “درب الفشارين مثل أبو طقة وسطوطة الفنجري وسحلول القاضي الذين يتدخلون في كل المشاكل والأحداث، وتقريبًا يحسسوك أنهم وراء كل ما يحدث ليس في مصر فقط؛ بل في العالم أجمع، وكذلك لدينا وكالة هريدي نيوز الإخبارية التي تنشر أخبارًا لا يمكن لك أن تقرأها إلا في هذه الوكالة التى يرأس مجلس إدارتها المعلم هريدي اللي هو أشهر مني أنا شخصيًا”.
قال “شاهين” إن الكتابة الساخرة هي مرآة المجتمع؛ لأنها ليست مجرد “إلهاء أو إضحاك”، ولكن هي تقدم الحقيقة بطريقةٍ غير مباشرةٍ؛ وتنتقد أحيانًا بطريقةٍ لاذعةٍ دون التعرض للمساءلة القانونية، كاشفًا عن أنّ من أهم صفات الكاتب الساخر أن يكون مهمومًا بالشأن العام، ويمتلك المفردات اللغوية التي تجعله يقدم مادةً صحفيةً دون التعرض للمشاكل القانونية.
تابع: “الأستاذ عصام كامل لا يمر عليه أسبوع دون استقبال اتصالات من المسئولين غضبًا مما كان ينشر في ملحق ساخرون، ولكنه هو بالطبع يشرح لهؤلاء الطبيعة الساخرة للمحلق”.
أردف: “القارئ بيحب الكتابة الساخرة، وينتبه لها بسرعة، لأن الشعب المصري شعب ساخر بطبعه، لذلك أي كاتب ساخر جيد يحقق شهرةً واسعةً، مثل جلال عامر الذي حقق انتشارًا واسعًا في وقت قصير جدًا، ولكن لا توجد جريدة ساخرة الآن في مصر”.
يؤكد “شاهين” أنّ ملحق “ساخرون” كان يضم 8 رسامين، عددهم وصل الآن 3، كما أن الحالة الاقتصادية، وارتفاع الأسعار، كانت سببًا في تناقص شديد في المساحة المخصصة لنا.
وأكدّ أنّ التجارب الصحفية الساخرة في السنوات الأخيرة جميعها غير مكتملةٍ، ولا تستمر أكثر من سنةٍ، حتى الصحف القومية كان بها صفحات ساخرة، لكنها اختفت، حتى عندما تعود، تعود بشخصياتٍ جديدةٍ.
وتابع: “تجربة فيتو في الصحافة الساخرة هي الوحيدة المستمرة منذ صدور الجريدة حتى الآن، والكلام ده يُدرس لطلاب الإعلام حول الكتابة الساخرة بعد 25 يناير”.