نور الهدى فؤاد
رغم شكل الغلاف المتواضع مقارنة بثورة الأغلفة البراقة والذكية التي اجتاحت سوق الكتب مؤخرا، إلا أن كتاب “المنفى الاختياري” للكاتبة الصحفية سامية صادق، يحمل في طياته عناصر أخرى للجذب والتشويق.
الكتاب الصادر عن دار روزاليوسف ويحمل عنوان جانبي باسم “أمريكا الحلم والوهم” يصطدم بطموح الحانقين على واقعهم وظروف بلادهم والشغف المتفشي بكل ما يتعلق بالولايات المتحدة والحياة فيها كما يعد دليلا إرشاديا ممتازا للمقدمين على تلك الخطوة، حيث يرتحل المهاجرين وهم يرونها أرض الأحلام لما تبثه في أعمالها السينمائية ووسائل الإعلام من تمجيد مطلق وصورة مثالية ضخمة لا تلبث أن تتحطم بعد مواجهة أنماط حياة المغتربين من كل الجنسيات في تلك البلاد الباردة.
وعلى الرغم من ذلك، فالكتاب لا يدين الولايات المتحدة ولا يتهمها صراحة بالعدائية أو العنصرية أو تحطيم أحلام البسطاء، ولكنها فقط تكشف عن أدق التفاصيل التي تنزع عنها مثاليتها المزيفة وتظهرها شأنها شأن أي مكان في العالم لم ولن يكون أبدًا جنة أو مدينة فاضلة، إن لم يكن جحيما في الكثير من الأحيان.
نرشح لك: تعرف على تردد القنوات التعليمية
تنقل لنا “سامية” في 6 فصول معايشتها وتجربتها الذاتية في أمريكا فيما يشبه المذكرات الشخصية، التي تبدو من الفصل الأول مغامرة محسوبة بدقة تقول عنها “سافرت لأمريكا هروبا من ضغوط نفسية شخصية عقب وفاة والدتي عام 2012، وقبل السفر استطعت تأمين مسكن بالإيجار في جيرسي سيتي، أو كما يسمونها “شبرا أمريكا” من خلال صديق مصري كما اتفقت مع وائل الإبراشي، أن أعمل كمراسلة لبرنامجه هناك، بالإضافة لوعد من صديق صحفي أن يساعدني في الحصول على عمل آخر، ولكن عقب وصولي تغيرت الكثير من الخطط وانقلبت الظروف وتعرضت للكثير مما يتعرض له كل المهاجرين خلال الثلاث سنوات التي قضيتها بأمريكا من 2012 إلى 2015، بداية من كسر التأشيرة وصعوبة المعيشة وعدم الشعور بالأمان وحتى عروض الحصول على الجنسية من خلال الزواج”.
كما تصف “سامية” بالأمثلة والقصص الحية أحوال المهاجرين لأمريكا وأنماط حياتهم المؤسفة غالبا على نقيض الصورة الذهنية التي يعودون ليحكون عنها في بلادهم، ما بين جوع وتشرد وانحلال أخلاقي يعتصره الحنين لكل ما هو مصري، إلى حياة بلا روح بسبب الانخراط في البحث عن المال والجنسية التي من أجلها يختصم أحدهم دينه أو بلده أو رجولته فيدعي كذبا أنه شاذ جنسيا، بخلاف إجراءات ضمان الولاء للوطن الجديد بإثبات تفضيله على الأول.
أما الزواج فهو الوسيلة الأقل سوءًا والأطول ضررًا، حيث يدمر حياة المئات من المصريين بين واقع مجبرين عليه والتهديد بضياع “تحويشة العمر” إذا فكروا في الطلاق أو الزواج الثاني، وربما التعرض للابتزاز أو الاستغلال كحال الصديقة “أسماء” التي يقرر زوجها المصري رفع دعوى طلاق منها بعد أن قام بتسجيل أحاديث لها ليثبت أنها مريضة نفسيا ليأخذ منها ابنتهما “منة الله” بالإضافة إلى تشتت الأبناء وفرص فقدانهم للأبد إذا ثبت اعتداء أحد الوالدين عليهم بالضرب، وضياع هوية الجيل الثاني بعد الهجرة مع خطورة انتسابهم لنا كمصريين.
ولا تختلف كثيرا أحلام العمل والثراء، فقصص الحصول على الوظائف جميعا تبدأ بمهن مرموقة ذات شروط صعبة وتنتهي بأصحابها كعاملين في المطاعم أو المتاجر أو عمال نظافة أو أي عمل متدني لخريجي الطب والهندسة في بلادهم، بنظام الكاش وهو ما يعني عدم التقيد بعقد عمل أو أوراق رسمية حتى يستطيعون الهرب من الضرائب وتزداد فرصهم في الحصول على إعانات البطالة الصحية والغذائية، حتى أنها تصف الأمر في كتابها قائلة “أمريكا تقتل المواهب والطموح وخاصة للغرباء إلا قلة نادرة جدا يدفعون الثمن غاليا للوصول للعيش المستقر”
ولعل أفضل القصص التي تعبر عن كفاح لقمة العيش قصة “سمية” الأم المصرية التي أصبحت سائق أتوبيس من أجل أبنائها الأربعة بعد أن تخلى عنهم الأب، لتواجه وحدها اختلاف عادات والتقاليد ومشكلة تطوع ابنها في الجيش الأمريكي دون علمها ثم تنجح في نجاته منها، كما تواجه الاضطهاد والعنصرية من أحد الضباط الذي نجح في الاقتصاص منه عن طريق شكوتها القنصيلة المصرية التي تتسبب في نقله لولاية بعيدة على الرغم من أنها تتمتع بالجنسية الأمريكية.
تتجلى القدرات الصحفية العظيمة لدى “سامية” في تحليلاتها وتتبعها للأحداث والشخصيات وتسجيل تفاعلها وانفعالاتها مع تلك المغامرات الصغيرة، بالإضافة إلى تمكنها في استخدام السرد الصحفي المعلوماتي ممزوجا بلغة أدبية ممتعة وبسيطة في ذات الوقت مع تسلسل منطقي وتنقلات سلسلة بين حكايات يشعر معها القارئ أن كل “حدوتة” تصلح كرواية منفصلة وممتازة تجمع بين التراجيديا والكوميديا السوداء، بل كأن تلك القصص مسلسل منفصل الحلقات عن المغتربين في الولايات المتحدة.