في اليوم الموعود عام 1876، وقفت عربة الخديو إسماعيل المكشوفة أمام هذه السراي الفخمة في حي الإسماعيلية (لاظوغلي حاليًّا) لينتظر الخديو شقيقه من الرضاعة وذراعه اليمنى إسماعيل صديق المفتش ليصحبه في نزهة نيلية، استقر “المفتش” في نهايتها في قاع النيل بعد أن قضى عليه القاتل التركي الشرس إسحق بك بصورة بشعة.
كان هذا اليوم الأخير لإسماعيل المفتش في السراي الفخمة – والتي أسهب في وصفها القنصل الأمريكي بمصر آنذاك مستر ليون.
هذه السراي تحولت الآن إلى خرابة تسكنها الوطاويط والثعابين والفئران، بعد أن تركتها وزارة المالية منذ نحو عشر سنوات خلت، وشوهتها برافانات زجاجية لا تمتُّ لعمارة المكان بصلة.
لم أصدق أنني سأرى جيشًا من الخفافيش في عز الظهر ووضح النهار وفي قلب القاهرة، وفي ميدان من أشهر ميادين القاهرة (ميدان لاظوغلي) وأمام وزارة العدل، وأين؟ في قصر أغنى رجل وأمهر مرتش وأدهى سياسي عرفته مصر الحديثة، الخديو الصغير كما يطلق عليه العامة.
إلا أن هذا القصر تظل أهميته لخصوصية صاحبه؛ الرجل الذي شكلت حياته ومماته أكثر من علامة استفهام، ناهيك عن أن هذا القصر من بين قصور المفتش العديدة في القاهرة والإسكندرية، وعشرات المنازل التي اقتناها، فهو يعد الوحيد الذي له هذه الهيبة والمكانة والمساحة، وقد مزج في السراي – والتي بنيت في موقع البركة الناصرية بعد ردمها – في تصميمه وأثاثه وزخارفه بين طراز النهضة الفرنسية ونظيرتها الإنجليزية.
ولقد تحدث عنه القنصل الأمريكي إدون دي ليون باستفاضة قائلاً: «إن البساتين والحدائق التابعة للسراي تغطي مساحة لا تقل عن مساحة الأرض التي أقيمت عليها الأهرامات الثلاثة، وإذا أراد الإنسان أن يشاهدها وهو سائر على قدميه دون انقطاع فلن يكفيه حتى الصباح!
للأسف لم يتبق من هذا كله سوى الذكرى ولمحات من جمال قد تندثر قبل أن تنالها يد الترميم!
من مدخل السراي الشرقي عبرنا – أنا ومرافقي المفتش الأثري – تلك الألواح الخشبية لنصل إلى فناء القصر، حيث ظلام لا يقطعه سوى بصيص نور يأتي من الدور العلوي، وبدأنا نسمع تلك الأصوات التي تشبه العويل، لقد أصبح قصر المفتش العام ملجأ لتلك الوطاويط تبسط وتطوي أجنحتها في طوله وعرضه كما يحلو لها، وتضع بصماتها من دماء قانية على الجدران، تسيء إلى جهد فنان أبدع في رسمها وطلائها.
فكرت أكثر من مرة قبل أن أصعد هذا السلم الخشبي الحلزوني وأنا أرى أطيافًا تتحرك في الأسفل حيث الظلمة المرعبة، شجعتني فقط بعض لمحات جمال في سقف الدور العلوي.. زخارف مغطاة بماء الذهب، لوحات زيتية تنتمي لعالم الأساطير بشخوصه: كيوبيد، أفروديت، الجنيات نصف العاريات، والتي تعلن عن حال المصورين والمَثَّالين في عصر النهضة الأوروبية، رسوم أخرى لأطفال مجنحة محلقة في الهواء.. بدأت أهدأ نسبيًّا، وأنا أستمتع بهذه الرسوم وأبتعد عن نحيب الخفافيش، وأشاهد واجهات القصر التي أحاطتها الأشجار التي يربو عمرها على القرنين منذ إنشاء السراي.
نرشح لك: صدور “قصور مصر” لـ سهير عبد الحميد