« طيب الله أوقاتكم » هكذا كانت تحية يسرى فودة، بطلته الهادئة تلقى المشاهدين الذين تابعوه خمس سنوات على قنوات أون تى فى قبل أن يقرر إسدال الستار على هذه الصفحة. الصحافة التليفزيونية بلا شك ترك فيها بصمة مختلفة ولكنه صنع التاريخ بتجاربه الفريدة فى الصحافة الاستقصائية, وكان الوحيد الذى تسنى له أن يقابل ويستمع إلى العقول المدبرة لأحداث 11 سبتمبر ، حتى وصفته أقلام الصحف العالمية يوما ما بأنه «كانت بحوزته معلومات أثمن مما كان بحوزة قوى أعظم دولة فى العالم مجتمعة وحلفائها» .. قال عنه هيو مايلز، الكاتب والمنتج البريطاني المتخصص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إنه رائد الصحافة الاستقصائية في العالم العربي. لقب يستحقه بلا شك, خبرة يؤكد هو الآن سعادته بنقل أدواتها لطلبة الصحافة من خلال محاضراته. اكتسب شهرة كبيرة في برنامجه «سري للغاية» الكتابة ليست أمرا مستجدا على فودة، الذى ترجمت بعض كتاباته إلى 7 لغات من فرط أهميتها، وكان له أيضا فى السابق تجارب شعرية، ولكن مؤخرا أصدر كتابا كان محط اهتمام واسع حيث يسجل فيه للتاريخ وللمرة الأخيرة اثنتين من أهم وأخطر تجاربه. فى «فى طريق الأذى»، يتحدث عن كواليس لقائه مع خالد شيخ محمد، ورمزي الشيبة، مخططي عملية 11 سبتمبر، ويتناول الجزء الثاني تفاصيل دخوله سوريا والعراق في سنوات لاحقة لتغطية الجماعات المسلحة والمتشددة التي تقاتل في المنطقة، والتي عرفت لاحقا باسم «داعش».
ويحتوي الكتاب على مستندات وتفاصيل ينشرها «فودة» لأول مرة، خاصة تلك التي تخص ماسماه رحلة «الطريق إلى المجهول» حيث معاقل الجماعات الإسلامية في دمشق والعراق.
مع أشهر من سار فى طريق الأذى، كان لنا هذا الحوار:
ـ كيف تنظر إلى هذا التفضيل الذى يعكسه استفتاء لعينة من 600 شخص من مختلف شرائح المجتمع, جعلت لك موقعا متميزا بين من عرفه المصريون من إعلاميين خلال الـ25 سنة الماضية؟
أولاً، لديّ تحفظ على فكرة الاستفتاء في حد ذاتها، ليس فقط لاختلاف الفرص المتاحة أمام إعلاميين في مراحل مختلفة من مسيراتهم الصحفية في وسائل إعلام متفاوتة القدرات و الظروف، و لكن أيضا لتغطية الاستفتاء فترة زمنية طويلة لا تساعد على عدالة المقارنة؛ فلكل كل حقبة ظروف تحكمها، سواء من النواحي السياسية والثقافية والحقوقية أو من النواحي المهنية وتطور الأدوات. لكنني أشكر هؤلاء الذين وجدوا في ما حاولنا أن نقدمه شيئا يستحق التقدير، ونعتز بثقتهم، ونرجو أن نكون دائما أهلا لها.
ـ كيف ترى مراحل تغير الإعلام في تلك الفترة؟
ليس سرا أن جوهر فلسفة الإعلام في مصر على مدى أكثر من نصف قرن لم ينتصر لقيمة العمل الصحفي الحر الذي يقدم المعلومة بتجرد بقدر ما كان أداة للتعبئة ولتكريس الأمر الواقع. وكانت هناك دائما محاولات معظمها فردي للخروج عن هذا النمط، وتذكير الناس دائما بأنك يمكن أن تكون ناجحا وصادقا في الوقت نفسه، وبأنك يمكن أن تكون وطنيا ومهنيا و أخلاقيا في الوقت نفسه. ولعل أبرز مثال على ذلك أستاذنا الراحل محمود عوض، الذي اختاره الله إلى جواره قبيل قيام الثورة، و هو بكل تأكيد من يستحق لقبا كهذا في استفتاء كهذا فلا بد أن نذكر فترة أواسط التسعينيات عندما سمحت السلطات لتيار من العمل الإعلامي «المستقل» نسبيا عن النمط المعتاد ثم جاءت ثورة ٢٥ يناير فأحدثت هزة في كل المجالات، و من بينها الإعلام بكل تأكيد، وبرهنت على أن تجربة الحرية كتجربة الموت..فأنت تستطيع أن تعبر إلى الموت لكنك لا تستطيع أن تعود منه .
ـ اختصار.. لماذا ابتعدت؟
قررنا وقف برنامج «آخر كلام» فى سبتمبر ، باختصار، نظرا لتغير المناخ العام، وذلك من أكثر من وجه سياسيا ومجتمعيا ومهنيا، وفى لحظة زمنية معينة وصلنا إلى نقطة داخل هذا المناخ أدركنا فيها أننا لن نستطيع الحفاظ على الحد الأدنى من احترام الناس والمهنة. ومع شديد تقديرنا للظروف التي نمر بها حاليا في مصر فإن العمل الإعلامي المحترم لا يؤمن بنظرية «إما معنا أو مع الأعداء»، وليست هذه مهمته على أية حال.
ـ الصحافة الاستقصائية كانت لك بصمة فيها صنعت التاريخ بلا شك, فهل ترى نفس التغيير ممكنا من خلال برامج التليفزيون مثلا؟
الصحافة الاستقصائية هي سن الرمح في العمل الصحفي، وهي أكثر ألوانه تطلبا، وقد زاد الوعي بها في العالم العربي في السنوات القليلة الماضية لكنّ أمامها طريقا طويلا لا يزال يتطلب الكثير من الجهد والتجربة المستقبل فى علم الغيب وربما أعود إليها إذا توافرت الظروف المناسبة، لكنني سعيد حاليا بأن لديّ الآن فرصة لتدريب أجيال جديدة من الإعلاميين المصريين والعرب من خلال جامعات ومعاهد ومؤسسات تؤمن بأهمية هذا اللون من العمل الصحفي وكونه عنصرا أساسيا من الطريق إلى الحقائق.
ـ كتاب «في طريق الأذى», كيف تقيم تجربته ؟ ولماذا صدر الكتاب الآن؟
هذه أول فرصة أتيحت لي لتوثيق جانب من التحقيقات الاستقصائية والتجارب التى قمت بها. أنا أستمتع كثيرا بالقراءة والكتابة، ولأسباب واضحة لم تكن الفرصة متاحة من قبل في ظل متطلبات العمل التليفزيوني، خاصة بعد قيام الثورة. أردت من وراء هذا الكتاب تحقيق رغبة طالما تطلعت اليها وهى أن أودع تلك التجربة في صورة توثقها للتاريخ وتجيب على أسئلة ربما كانت عالقة في الأذهان ونضع النقاط على الحروف فيما يخص فصلا مهما من التاريخ، وتكون بين يدي زملائي من الصحفيين الذين يطمحون إلى عمل صحفي من هذا القبيل.
ـ في ضوء ما حدث لصحيفة تشارلي إبدو, ثم كوبنهاجن, و غيرهما متى يجب على الإنسان أن يحجم قلمه؟
لا يوجد شيء اسمه حرية بلا مسئولية، وتصفية الجسد لا تحل مشكلة على الإطلاق ولا تقتل فكرة، خاصة من هذا النوع، إلا فيما حدده الله والقانون. وكما أن هذا ينطبق على مجلة تتعدى في فهم أبعاد الحرية، فإنه ينطبق أيضا على أي مجتمع يواجه إرهابا. لا بد أن تكون هناك استراتيجية أكثر شمولا لا تتخلى عن خيار مواجهة العنف بما يستحقه، لكنها لا تغفل مواجهة الأسباب التي تؤدي أصلا إلى الإرهاب.
ـ كيف تتمنى لمصر أن يصير حالها فى الـ25 عاما الآتية؟
لأن المعاصرة حجاب فإننا لا نرى كثيرا من تفاصيل اللحظة المعيشة، ولا تتضح الرؤيا من تلك النقطة, ولأن الألم مكلف فإننا لا ندرك أحيانا كم هو نعمة من الله ترشدنا إلى بيت الداء. نحن نعيش لحظة تاريخية بمعنى الكلمة، بكل آمالها و بكل آلامها، ليس ما سبقها كالذي تلاها. ورغم أن للثورة نتائج إيجابية لا حصر لها، يتوارى الإحساس بها كثيرا أمام مشاعر الإرهاق و الإحباط والغضب، فإنني أذكر نفسي دائما بمواطن فقير لا يقرأ ولا يكتب، يدرك الآن أنه دافع ضرائب، وأن راتب المدير والوزير والرئيس يخرج من جيبه.
نقلًا عن مجلة “نصف الدنيا”