طاهر عبد الرحمن
كتاب جديد بعنوان “سيرة الضمير المصري.. معالم في تاريخ الفكر المصري الحديث” للكاتب الصحفي والباحث في التراث الثقافي، إيهاب الملاح، عن دار الرواق للنشر والتوزيع في القاهرة.
يستعرض المؤلف عبر 15 فصلا أدوار عدد من الشخصيات والأحداث التاريخية، التي شكلّت الوجدان والفكر المصري من منتصف القرن الثامن عشر وحتى بدايات العقد الثالث من القرن العشرين.
هذه الشخصيات والأحداث تتابعت وراء بعضها البعض بصورة متكررة على كل المستويات، السياسية والثقافية والاجتماعية، وهو – كما يؤكد الكاتب – دليل على أنها كانت محاولات وأفكار “أصلية”، تم تطويرها – في كل حلقة من حلقاتها – بما يناسب عصرها وزمانها.
بالوثائق والأدلة يرد الباحث المتمكن الاعتبار لـ”القرن المظلوم” تاريخيا في مصر، وهو القرن الثامن عشر، والذي يعتبره البعض أحد القرون المظلمة على كل المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية.
إن محاولة الاستقلال السياسي والاقتصادي التي قادها شيخ العرب “همام الهواري” في صعيد مصر أبرز مثال على حيوية الشعب المصري وقدرته على المقاومة، رغم كل الظروف والقهر والاستبداد، لدرجة التفكير في تأسيس “جمهورية” في القرن الثامن عشر!
في نفس السياق يقرأ الأستاذ إيهاب، محاولة علي بك الكبير للاستقلال السياسي عن الدولة العثمانية، التي سبقت محاولة محمد علي، وكادت أن تنجح لولا “الخيانة”، السلاح العثماني التقليدي، ولو نجحت لربما تغير وجه التاريخ المصري كله، وذلك قبل مجئ “حملة النيل” الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، والتي يعتبرها البعض – بشكل مبالغ فيه – اللحظة الفارقة في التاريخ المصري الحديث!
لم يكذب نابليون بونابرت حين قال “إن مصر أهم بلد في الدنيا”، وكانت إقرارا منه بحقيقة تاريخية وحضارية وجغرافية راسخة، وكان قطاع كبير من الشعب المصري – بالحس قبل الدرس – يعي ذلك جيدا، ومن هنا كان استيعابه لتجربة الحملة الفرنسية – السياسية والفكرية – سريعًا ومباشرا، ومن أهم نتائجها اختياره لـ”محمد علي” واليا بالعند في الباب العالي في اسطنبول.
إن محمد علي رجل دولة من طراز نادر، استطاع في سنوات قليلة – بمساعدة مخلصة من رجال تمسكوا بالفرصة التاريخية التي أتيحت لهم – أن يبني دولة حديثة، بمقاييس القرن التاسع عشر، رغم هزيمته العسكرية التي قضت على طموحه السياسي في النهاية.
إن مفكرين ومجددين من نوعية “حسن العطار” (وقد أفرد له الكاتب فصلا لبيان أثره الكبير شبه المجهول) و”رفاعة الطهطاوي” وغيرهما، لم يكن لهم أن يتمكنوا في نشر الثقافة والوعي إلا بسبب تشجيع ودعم من “القيادة السياسية”، مما كان له الأثر الكبير في انتشار ونجاح محاولاتهم وأفكارهم.
من بين كل من خلفوا الوالي محمد علي في حكم مصر من أبنائه وأحفاده، تبقى للخديوي إسماعيل مكانة خاصة في الضمير المصري، فهو كان أقربهم – فكرا – للجد المؤسس، وكانت محاولته لتحديث مصر – رغم بعض عيوبها – محاولة تاريخية أسست لمجتمع جديد كان يستعد لدخول القرن العشرين، ولذلك كان طبيعيا جدا حتى بعد عزل إسماعيل واحتلال الإنجليز لمصر أن تستمر حركة النهضة الفكرية والثقافية لسنوات طويلة، رغم الحصار والحرب التي شنتها سلطات الاحتلال، فيخرج رجال من أمثال “جمال الدين الأفغاني” وتلميذه “محمد عبده” بكل أفكارهم الإصلاحية والثورية، هذه الأفكار التي قادت بعد ذلك إلى تأسيس الجامعة المصرية، وظهور طبقة وسطى عريضة قادت حركة نهضة شاملة قبيل وبعد ثورة الشعب الكبرى عام 1919.
في النهاية وبالنظر إلى كمية المراجع والمصادر التي أوردها الكاتب والباحث في نهاية كتابه – بالإضافة إلى ما ذكره في سياق الفصول – فإنها تدل على جهد كبير وغير عادي مبذول، وبالطبع السلاسة والاسترسال في التعبير لا تدع القارىء يشعر بأي ممل، وربما ينتهي من القراءة في ساعات قليلة.. إنه ليس “سيرة الضمير المصري” بل “صلاة” في محراب الوطن الأغلى.
نرشح لك: 100 كتاب ورواية يرشحها لك المثقفون للقراءة خلال حظر التجول