طاهر عبد الرحمن
تاريخ طويل وحافل، صعودا وهبوطا، عاشته الصحافة المصرية، منذ بدايتها الحقيقية منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، وعلى طول تلك المسيرة فإن معظم من عملوا بها حاولوا – كل بقدر استطاعته – أن يُطور المهنة، شكلا وموضوعا، ومنهم من نجح ومنهم من أخفق بحسب الظروف السياسية والاجتماعية، لكن يمكن القول بأن هناك مجموعة من الصحفيين الذين استطاعوا تأسيس مدارس صحفية كبيرة، كان لها الفضل في إرساء وتدعيم الصحافة، ونقلها تلاميذه، منهم من التزم بها ومنهم من أضافوا لها.
في هذا التقرير يواصل “إعلام دوت كوم“، من خلال سلسلة علامات صحفية، رصد أبرز تلك المدارس وتجارب أصحابها وأهم ما يميزها ويميزهم، وفي هذه الحلقة نتحدث عن “محمود عوض”.
في يوم السبت 31 أغسطس عام 2009، اكتشف الكاتب الصحفي “خيري حسن” وفاة الكاتب الصحفي الكبير “محمود عوض” في شقته عن عمر ناهز ال70 عاما، ومن المرجح فإن الوفاة حدثت قبلها بيومين إثر أزمة قلبية حادة تعرض لها، وكان الراحل يعيش وحيدا، وقد وهب حياته كلها لمعشوقته الأولى والأخيرة: الصحافة.
“محمود عوض” تجربة لا تتكرر كثيرا في عالمي الصحافة والكتابة، فقد كان موهوبا بالفطرة، ولذلك لم يكن غريبا – في بداياته – أن يلفت نظر كبار رجال المهنة ويستحوذ على اهتمامهم، وأن يدعموه ويقفوا خلف تلك الموهبة.
هو صاحب أسلوب السهل الممتنع في الكتابة، الذي يجمع بين عمق الفكرة ورشاقة العبارة بغير استطرادات لا لزوم لها، ولذلك استحق عند جدارة وصف “إحسان عبد القدوس” له بأنه “عندليب الصحافة”.
على طول مشواره في الصحافة لم يعتمد “عوض” إلا على قلمه وانحيازه الدائم للحقيقة حتى وإن كلفه ذلك كثير من المتاعب والمشاكل، لكنه في كل مرة كان يثبت أن الموهبة أكبر من أي منصب، وكانت هي من فتحت له أوسع الأبواب ليكون صديقا مؤتمنا على كثير من أسرار الكبار في الصحافة والسياسة والفن.
في عام 1977 واجه أكبر أزمة في حياته عندما أصدر “موسى صبري”، قرارا إداريا بمنعه من الكتابة في جريدة “أخبار اليوم”، وهو القرار الذي استمر حتى خروجه على المعاش، ورفض “إبراهيم سعدة”، التمديد له، كما هو متعارف عليه، وخلال تلك المدة الطويلة كان يجلس في مكتبه بأخبار اليوم يكتب مقالاته التي تنشرها جرائد ومجلات كثيرة في العالم العربي، دون أن تظهر على صفحات جريدته الأصلية.
نرشح لك: عناوين وأسعار كتب محمود عوض بـ “دار المعارف”
كانت هزيمة يونيو 1967 عاملا مهما في حياته المهنية، مثله مثل كثيرين من جيله، ولكنه لم يستسلم لليأس أو الإحباط، فقد كانت ثقته مطلقة في الشعب المصري وقدرته على الثأر، ولذلك خصص جزءا كبيرا من قراءاته وكتاباته للشأن الإسرائيلي، فكرا وسياسة واستراتيچية، بالشرح والتحليل.
بعد أسابيع قليلة من الحرب، ورغم الحزن والأسى الشديدين، قام “عوض” بعرض فكرته على يوسف السباعي، رئيس تحرير مجلة آخر ساعة الذي رحب بها بشدة وكتب بالفعل، وكان صدى ما كتبه واسعا ولاقى قبولا واستحسانا كبيرا، وهو ما لفت نظر الأديب الكبير، إحسان عبد القدوس، رئيس تحرير أخبار اليوم وقتها، يطلب منه أن يكتب فيها، وهو ما كان.
بعد ذلك عرضت عليه الإذاعة المصرية، ونتيجة لنجاح مقالاته، تقديم برنامج يومي بعنوان، من قلب إسرائيل، مدته 5 دقائق يستعرض فيه ما يصدر عنها، والغريب – أو المضحك – أن تلك المقالات والأحاديث الإذاعية اعترض عليها البعض بمنطق أنها “تؤدي لبلبلة الرأي العام” وهو الاعتراض الذي لم يصمد طويلا، لأنه نوع من القصور الفكري، وهكذا استمر محمود عوض سنوات بنجاح، وكانت النتيجة واحدا من أهم كتبه: “ممنوع من التداول.. أفكار إسرائيلية”، الذي صدرت له طبعات كثيرة ومن دور نشر مختلفة في مصر والعالم العربي.
بالتوازي مع مجهوده الكبير في مقالاته وبرنامجه الإذاعي، كان عوض مهتما اهتماما شديدا بكل ما يجري في القوات المسلحة المصرية، التي سريعا ما تماسكت واستعادت زمام الأمور، وبدأت في الاستعداد الطويل والمرهق – بالعرق والدم – من أجل رد شرفها وشرف الأمة العربية للوصول ليوم السادس من أكتوبر 1973، الذي يسميه: اليوم السابع، باعتبار أن ما حدث طيلة ست سنوات بعد 5 يونيو 67، ما هو إلا يوم واحد طويل.
المرة الأولى والأخيرة التي تولى فيها “عوض” رئاسة تحرير جريدة كانت في الثمانينيات، ولأسباب عديدة قبِل العرض الذي قدمه له حزب الأحرار، وهو في الأساس لم يكن عضوا فيه.
منذ البداية وضع شروطه أمام الجميع، فالجريدة – وإن كانت ناطقة بلسان الحزب – إلا أنها ليست مجرد “نشرة” سوف يقوم بتحريرها لأخباره وأخبار نشاطات رئيسه، واتفق على تخصيص صفحة واحدة لكل ذلك، وأما باقي الجريدة فهي مسؤوليته.
يمكن القول إن تجربة “الأحرار” كانت أهم تجربة صحفية مصرية في الثمانينيات من القرن العشرين، ليس فقط بسبب أرقام التوزيع، وإن كانت كافية، ولكن لأن محمود عوض وضع فيها تقريبا كل خبرته وتجربته وكانت بمثابة “تحدي” خاص بينه وبين كل من عادوه وحاربوه.
وللأسف الشديد وكما يحدث دائما فإن كل مشروع أو حلم جميل لابد له أن ينتهي، وجاءت سريعا نهاية التجربة بسبب أمور حزبية تافهة، حيث لم يرض البعض – حسدا وغيظا – بما فعله محمود عوض في الجريدة.
كان محمود عوض صديقا لكبار الفنانين في عصره، وهي صداقة – وكما هو معروف – لم يستفد منها بأي شكل أو طريقة، بل وأكثر من ذلك كان أقرب ل”المستشار” الفني والثقافي لهم، وكان يقوم بذلك الدور وفاءا للصداقة وتقديرا لهم.
قائمة طويلة تبدأ من محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وبليغ حمدي وغيرهم الكثير. صداقة حقيقية وليست مجرد علاقة تقليدية بين صحفي وفنان.
هو من كتب المسلسل الإذاعي الوحيد لعبد الحليم حافظ، وهو من قدم أم كلثوم للقارىء كما لم يقدمها أو يكتب عنها أحد من قبل في كتابه “أم كلثوم التي لا يعرفها أحد” وكذلك مع “عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد”.
ولم يسمح لنفسه – أبدا – بعد وفاة الجميع أن يستغل تلك الصداقة وأسرارها، كما فعل – دون ذكر أسماء – آخرون، وهو عندما كتب عنهم فإنه كتب من موقف المحلل والناقد وليس مجرد الصديق الذي يتباهى بصداقة أو بإذاعة سر.
قدم “العندليب” الكثير والكثير من الكتب والمؤلفات الهامة، وعلى قدر أهميتها فإنها أيضا متنوعة ومختلفة، منها ما هو متوفر في المكتبات ومنها ما هو نادر ولم يطبع منذ سنوات.
في السياسة والاستراتيجية قدم كتب: “.. وعليكم السلام” و”ممنوع من التداول”، “اليوم السابع”، وفي الفكر”أفكار ضد الرصاص” “شخصيات” و”متمردون لوجه الله” و”بالعربي الجريح” و”من وجع القلب”، وفي السياحة والسفر “سياحة غرامية” و”مصري بمليون دولار”.
نرشح لك: 100 كتاب ورواية يرشحها لك المثقفون للقراءة خلال حظر التجول