عم مصري “اسم مستعار” لشيخ سبعيني قعيد التقيته في إحدي قري مركز إهناسيا “ننا” بمحافظة بني سويف الشقيقة خلال تحقيق صحفي قمت به عن “وهم تطوير القري الأكثر فقرا في مصر”، دلني عليه أحد الأهالي العالمين ببواطن الفقر في القرية التي وضعتها منظمة اليونسكو علي رأس القري الأكثر فقرا ضمن محافظات الجمهورية، لم يسأل أحدا فاقة، ولكنه برغم ما يعانيه من مرض ووجع وفقر بأضعاف عقود عمره السبعة ما يزال يكابد ويكافح ويعمل بجد في مجال جمع “الخردوات” و”الزبالة” من أجل أن لا يسأل فلان أو علان أو يمد يديه لهذا أو ذاك أو هؤلاء ممن تمتلئ بهم شاشات الفضائيات وبرامج التوك شو التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تعلم شيئا عن أحوال هؤلاء المنسيون في الأرض حتي صاروا في أسفل سافلين من القاع ولا يتصدروا المشهد ويتسيدوا برامجهم إلا في ذروة أوقات الإنتخابات والمصالح الخاصة من أجل حفنة من أصواتهم الهزيلة التي إن نطقت لأعدمتهم جميعا في ميدان عام؟، ولكنهم يعيشون في صمت ويرحلون كما عاشوا.. أيضا في صمت.
في غرفة عرشها من الخوص وبلاطها من الطين وجدرانها من الطوب اللبن”الأخضر” لا تزيد عن مترين في ثلاثة أمتار مفتوحة علي غرفة أخري داخلية ضيقة لا تقل سوءا عن سابقتها، متناثرة الأواني النحاسية والملابس المهلهلة التي تسبقها رائحتها المعبقة بالعرق تتكوم في جانبيها والتشققات تسكن الجدران في انتظار قرار الإزالة الرحيم، بعد أن ملت من الترقيع والترميم عبر سنوات طويلة، هناك كان يجلس عم “مصري” ويسكن معه في هاتين الغرفتين الضيقتين كالقبر أسرتين”أمه وزوجه” و”ابنه وزوجته وبناتهما”، الكلام كان يخرج منهما كأنه محمل بالصخر.
كانت زوجته صاحبة الستين عاما تبكي من فرط الحاجة والفقر و العوز دون أن تمد يدها يوما بالسؤال وطلب الحاجة أو المعونة من أحد وزوجها كذلك يشاركها نفس الإحساس الممرور ويبكي بحرقة والدموع تتفلت من بين جفنيه بعد أن حاول مرارا وتكرارا أن يمسك نفسه وهو يتحدث إليّ ولكن غلبته دموعه هذه المرة وخانته وهو يصرخ من الوجع والألم بكلمات ستظل محفورة في قلبي ومسنونة علي زناد قلمي وهو يردد: أنا داخل علي رمضان وأقسم بالله ما معايا تمن كيلو رز ولا كيلو سكر ولا كيلو بلح ولانص كيلو لحمة ومحروووووووم فعلا من قلة الأكل ومحروووووق وساكت.. سبعين سنة وأنا علي الحال ده وساكت ومش باتكلم بأتالم وباموت وأنا عايش وساكت.. ثم يسكت ليجفف دموعه الحارة التي انهمرت كسيل جارف في صحراء جرداء وأطرق في الأرض بعينيه وهو يحكي الوجع الذي ترجمته كل دمعة من دموعه الغالية، كل صرخة ألم مكتومة بداخله، كل دعوة بظهر الغيب مرفوعة لسابع سما من مظلوم ساكن في سابع أرض، ساكن في أوضة جواها حمام واللي داخل يدوس عاللي نايم واللي صاحي بيخبط في اللي قايم والصغير علي حجر الكبير والعجوز شغال في الخردة علشان يعيش.. ثم قالت زوجته وهي باكية:أقسم بالله دي عيشة ذل وإهانة ومرمطة مايرضاش بيها حتي كلب لحد ما قطر العمر يتقلب بينا في أخر محطة وتنتهي حياتنا فجأة !!!!!
للوهلة الأولي عند رؤيتهم تحسبهم فقراء .. تعساء بؤساء “ومش لاقيين اللضا” ولكن كلما اقتربت منهم أكثر واستمعت إليهم بقلبك لرأيتهم يختبرون السعادة لديك ربما في لمتهم ووحدتهم وقناعتهم ورضاهم .. صدق فيهم قول الشاعر “ليتني مثلكم طهرا واقتناعا ورضا.. معرضا عمّ سيأتي غافلا عمّ مضي” .. كلمات سطرها جبران خليل جبران،شخصت ووصفت حال عم مصري وآله الأغنياء النفوس الأبرار الكرام الذين قال فيهم الله عز وجل، مادحا صنيعهم “يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا”.. يمر عليهم اليوم والشهر والعام دون أن يتذوقوا طعم اللحمة حتي نسوا طعمها ويعيشون فقط علي رائحتها من الجيران علي أمل التنعم بها بعد حين، تساعدهم بعض الجمعيات الخيرية كالأورمان ورسالة دون أن يزورهم مسئول واحد بالدولة أو يسأل عن أحوالهم برغم كم الجرائد والقنوات وسيل البرامج التي عرضت لمشاكلهم ومعاناتهم مع الفقر والجوع وأكثر من 17 أسرة أخرين من قرية واحدة تتبعها سبعة قري أخري صغيرة في جنوب القاهرة.. عذرا إخوتي فالكل أكل وشرب علي فقركم .
لتكن انسان .. فلست بحاجة إلي دين أو عقيدة تشرع لك مساعدتهم، أو كفالتهم، فالإنسانية وحدها تكفي أن تنظر إليهم نظرة رحمة وعطف ورعاية وعناية، كونوا فقراء ولو حتي بالإحساس، تصدقوا ولو حتي بإبتسامة ودّ، افعلوا شيئا يبقي لكم عندالله، فلن تجدوا أبدا فرحا أكبر من اطعام فقير ورسم ابتسامة علي وجه طفل صغير يبكي من الفقر والجوع وهو يشكو إلي الله ظلم العباد وحاكمهم.. وما أسرع دعوة المظلوم وما أقسي قلوبنا !!
في غفلة من الزمن أصبحت الأرض لا تتحمل الوزن ربما ستسقط يوما ما، الفقراء يثقلون كاهلها والأغنياء يطأونهم بأقدامهم، العدالة كل يوم تسحق والإنسانية تتلاشي فتموت .. مهلا أيتها الحياة اصبري قليلا إلي أين ترحلين ؟ فهناك من لم يتعرف عليك بعد.. هؤلاء هم من يدفعون ثمن النسيان ويتجرعون كأس الظلم والحرمان، من حاكم ومحكوم، من مواطن ومسئول، والنبي المعصوم يخبرنا أن الله عز وجل غفر لباغية “امرأة زانية” من بني اسرائيل لأنها أنقذت كلبا من الموت “عطشا” فما ظنكم بمن ينقذ مواطنا مؤمنا من الموت بسبب الفقر والجوع والبرد !!
هؤلاء لا يهمهم سياسة أو اقتصاد ولا يشغل بالهم صراعات النخبة والأحزاب أو تجديد الخطاب الديني من عدمه، ولا يعرفون أصلا “يعني ايه نخبة” أو حد أقصي وأدني، فأدني أحلامهم “يعيشوا مستورين” وأقصي أحلامهم عمرة أو حجة لزيارة بيت الله الحرام قبل الرحيل وربما كان هذا هو طلبهم الوحيد الذي ذكروه لي صراحة دون استحياء، موجهين إياه لـ”محلب” فهم لا يتذكرون من الوزراء والمحافظين والمسئولين سوي رئيس الوزراء الذي يعرفهم جيدا وسبق أن أحصي عددهم ونسبتهم التي ذكر أنهم يمثلون 26% من جموع الشعب المصري .
هي كلمات نضحت من كتمانها الصدور وضاقت بحملها القلوب وذرفت في نطقها العيون، فما أقسي أن تملك روحا ولا تجد لها براحا تحيا فيه وما أصعب أن تعيش علي هذي الأرض ميتا دون أن تدفن، وحينما قامت الثورة رفعت شعارات ثلاثة : “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” وخرج الجميع من أجل إعادة توزيع الثروة بشكل عادل، وقدموا أرواحهم وحرياتهم عن طيب خاطر لهذه الشعارات، ومرت الشهور والسنون وما يزال العيش صعب المنال والحرية في قفص الإتهام والعدالة تحيا في ظل النظام، ومازلنا نحلم بمجتمع لا يستحي فيه الفقير من فقره، بل يستحي فيه الغني من التباهي بترفه، في عالم قبيح يعج بالمظاهر والتدين القشري الذي لا يظهر إلا في المواسم فحسب، وباقي العام الضمير في أجازة، بل موات في عالم أجمل ما فيه قلوب فقراءه، وضعفاءه والمظلومين فيه، ممن يعطون بدون شروط ويحبون بلا أدني مصلحة، كيف يفعلون ذلك ويخدمون من يستحقر وجودهم من الأساس.. أليست هذه ثروة كبري وكنز نعدم مفاتيحه !!
جاء في الأثر أن أمير قرية ممتلئ الجسم “سمين” ذات يوم قال لرجل نحيف القوام من أبناء رعيته : ياهذا من يراك يظن بأن قريتنا في أزمة غذاء!! هنا رد عليه المواطن الفقير الفصيح، الغني بلغة الحكماء والفلاسفة: ومن يراك يعرف سبب الأزمة!! فليس معني أن يكون أحدهم فقيرا ومحروما أن يعيش علي هامش هذا الوطن أو تحتقره وتنل من كرامته ويكون مجرد فراغ يمتلئ بشتات الأفكار ويسير خارج مضمون التغيير واليوم حانت لحظة التغيير والعطاء، ساعات معدودة تفصلنا عن أفضل شهور العام من حرم أجره فقد حرم وخاب وخسر من أدركه ولم يغفر له.. عذرا لكم يا من يطلقون عليكم فقراء الوطن، فأنتم الأغنياء ومن يحسبونكم كذلك هم الجهلاء .