محمد البرمي
بداية ما أكتبه هنا ليس تعبيرًا عن عمل فني، لكن عن أيام عاصرتها وعشتها عن قرب بصفتي الصحفية وتخصصي في تغطية الجماعات الإسلامية، وتواجدي في اعتصام رابعة وفي الكثير من ميادين مصر، في العام الأكثر قسوة وصعوبة 2013، والذي وجدتني رغم محاولات تناسي السنوات السبع الماضية استعيد مشاهده يوميًا مع متابعتي لمسلسل “الاختيار”.
في كل عام من الأعوام الـ7 الماضية، كنت أقول لنفسي دائمًا ما الذي يمنعنا من أن نروي شهادتنا؛ تفاصيل اللقاءات والحوارات؛ ما كان يدور بيننا وبين قادة التيار الإسلامي بكل فصائله من السلفيين بمختلف تياراتهم والجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين، فجميعهم لم يكونوا واحدًا، بل لكل منهم فكر مختلف؛ كانوا متنازعين دائمًا، ينتقدون بعضهم البعض بكراهية بالغة، فكل تيار منهم يريد أن يأخذ الدولة في طريقة، لكن قوة الإخوان مقارنًة بأحزاب أخرى بما فيها “النور” الأكثر قوة بين كل التيارات السلفية، كانت تحول بينهم وبينها، بالتالي حين اشتد الأمر عليهم تناسوا ذلك العداء، لأنهم ورغم كراهيتهم للإخوان إلا أن بقائهم في السلطة يصب في مصلحتهم في النهاية.
أتذكر أن حوارًا ما زال مسجلًا لدي، دار بيني وبين أحد قادة “سلفية العبور” حول جدوى الاعتصام في رابعة العدوية وما الذي يمكن أن يحققه، ففي النهاية العدد مهما كثر لن يكن ككل الشعب المصري الرافض لهم، كما أنهم مهما بلغوا من قوة لن يكونوا قادرين على مواجهة الجيش والشرطة، وقتها قال لي: “تفتكر إيه ممكن يحصل يعني؟”، أجبته: “أبسطها الفض.. مئات الموتى وربما الآلاف”، في الحقيقة الإجابة لم تكن مفاجئة رغم قسوتها، وذلك لموقف سأرويه بعد سرد الإجابة.
“ما الذي يمنع أن نكون مثل سوريا أو ليبيا ألم تكن أرض جهاد؟ ما الذي يمنعنا من فعل ذلك؟ المقاتلين كثر والشباب الإسلامي متعطش للجهاد؟ إن أرادوا تحويلها إلى حرب أهلية فما الذي يمنع ذلك؟”.. هكذا كان رده، هو بالتأكيد مفاجأة، لكن حين تعرف أن ذلك الرجل (يعيش في تركيا حاليًا) كان مسؤولًا عن نقل وتجهيز العديد من الشباب المصريين للسفر إلى سوريا، بحجة الجهاد ضد نظام بشار الأسد، ربما تذهب عنك مفاجأة كلامه.
موقف آخر في حواراتنا الدائرة مع أحد قادة الاعتصام وهو عضو بالجماعة الإسلامية وعضو مجلس الشورى المصري عن الجماعة الإسلامية ثم عضو في تحالف دعم الشرعية، والذي كانت الإخوان قد شكّلته من أنصارها لتظهر بأنها قوة، سألته: “لقد تركت الجهاد كما قلت وأجريت مراجعات فكرية وأذكر أنك أهديتني كل الكتب التي ألفتوها في السجن وتضمنت المراجعات الفكرية لكم”، فقال: “كنا نريد الخروج من السجن وممارسة حياتنا ولم يكن لدينا ما نخسره، بالتالي قدمنا تلك المراجعات، نحن نؤمن بها بالتأكيد، لكن لو سقط مرسي سنعود من جديد إلى السجون، لقد بتنا قريبين من الحكم وسنقدم ما نقدر عليه للإخوان وسنصل إلى حل مهما كان حجم التضحية”.
في مارس 2013 كنت في تغطية لاعتصام الضباط الملتحين، وهم مجموعة ممن فصلوا من عملهم أمنيا، ويطالبون بالعودة مع السماح لهم بإطلاق اللحية، وشهدت مصر معركة كبيرة بين التيار السلفي بقيادة النور وبين الإخوان المسلمين (وقتها كان العداء كبيرا بين الإخوان والإسلاميين بسبب تلك القضية قبل أن تتلاقى المصالح فيما بعد)، كنت استمع وأتحدث إلى الحوارات التي تدور بين مجموعة منهم سواء بينهم أو معي أو مع مجموعات من الصحفيين، خاصة الأجانب حيث كانوا يولونهم الحديث أكثر من أي شخص آخر، دار الحديث حول تطبيق الشريعة والسنة النبوية والجهاد.
يومها وقفت سيارة في ميدان التحرير، تحرك منها مجموعة حضروا بملابس الشرطة وجميعهم ملتحين، للانضمام لهم، أحدهم يأسًا قال إنه ذاهب إلى سوريا، كان الذهاب وقتها إلى هناك موضة بين الإسلاميين، وبكل سهولة ويسر الطريق ممهد إلى تركيا ثم إلى سوريا، وهناك مشايخ سلفية كبيرة تقود تلك التجهيزات، لكن المفاجأة في ذلك الكلام لم اكتشفها هنا، لكن حين أفرجت أمن الدولة عن وثائق اغتيال الرئيس عبد الفتاح السيسي بتاريخ 20 نوفمبر 2016، بأن النائب العام أحال 292 متهمًا إلى القضاء العسكري، لتكوينهم 22 خلية إرهابية تابعة لتنظيم ولاية سيناء، وكشفت التحقيقات أن هناك متهمًا يدعى «هشام. ع. ا» يعيش في سوريا، باع كل أملاكه وممتلكاته في مصر، وكلف قريبًا له بإعطاء مليون دولار لبعض أعضاء الخلية، وتبين من اعترافات المتهمين قيام مجموعة كبيرة منهم بتهريب أسلحة من قطاع غزة إلى سيناء، بالإضافة إلى ضبط أسلحة وذخائر ومبالغ مالية مع المتهمين المقبوض عليهم وكتب تكفيرية.
هذه المجموعة كانت موجودة وحاضرة في اعتصام رابعة، مازلت أذكر وجوههم وأسمائهم الأولى أيضًا، و”هشام.ع” هو هشام عشماوي الذي قاد فيما بعد العمليات الإرهابية ضد الجيش المصري.
“الراقصات عايزين يشيلوا مرسي”، هكذا كان المعتصمون في رابعة العدوية يصفون متظاهري التحرير، لم يكونوا مصدقين أبدًا أن قطاعا كبيرا من الشعب المصري يرفض وجودهم. وهنا أروي موقفا بسيطا شخصيا؛ لم أكن أقيم في القاهرة في شهر رمضان تحديدًا، لأنني لم أكن أفضل البقاء وحيدًا. في الصباح أركب السيارة إلى محطة الزراعة وهناك كانت سيارات رابعة تنقل الناس إلى الاعتصام.
بعد بيان القوات المسلحة الذي ألقاه الرئيس عبد الفتاح السيسي، كنا نتراهن يومها مع مجموعة من الأصدقاء الصحفيين ممن غطوا الاعتصام، أن البيان نهاية للإخوان وكان ذلك مفهوما، إلا بينهم؛ كانوا يؤكدون أن السيسي سيخرج ليعلن دعمه لهم بكل قوة، لكن حين صدر البيان هاج الجميع وكان علينا أن نخرج في هدوء من الاعتصام كي لا يبطش بنا أحد.
بعد الخروج من الاعتصام شكّل الأهالي على الطريق الزراعي مجموعات على رأس كل قرية، للفتك بأي عائد من الاعتصام يومها، وبالقرب من إحدى قرى بنها -كانت لحيتي كبيرة بعض الشيء- أوقفنا المواطنون ولم يتركونا إلا بعد مراجعة البطاقات الشخصية وكارنيه الجريدة، لم يحدث سوء لأي ممن كانوا في السيارة، لكن لك أن تتخيل كم الكراهية التي كانت في قلوب كل هؤلاء لو أمسكوا بشخص عائد من الاعتصام، فهل كل هؤلاء كانوا “الراقصات عايزين يشيلوا مرسي”؟!
موقف أخير في سلسلة ذكريات وحكاوي لا تنتهي أبدًا بيني وبين أحد قادة الإخوان وأحد شباب حركة “حازمون”، وقتها قلت له: هل تريدون مذبحة؟ غضب مني بشدة، وقال: “نحن نطالب بحقنا أنتوا إنقلابيين؟” قلت له: “أنا صحفي واسألك ونحن أمام المركز الصحفي الذي تمنعنونا في الكثير من دخوله وترعبوننا ونحن لا نفعل إلا عملنا”، قال: “لتكن مذبحة إن أرادوا، لن يرحل أحد من هنا وعلى المجتمع الدولي أن يكون شاهدًا على هذه المجزرة”، ثم رحل، ليكمل الشاب الذي ينتمي لحازمون: “هندِّول القضية وما أخذ بالقوة هيرجع بالدم”، هذا الشاب أعلنت وزارة الداخلية فيما بعد عن مقتله في مداهمة لها بمحافظة الجيزة، والكثير من صحفيي الإسلام السياسي يعرفونه جيدًا.