كان الجو خانقًا شديد الحرارة فى عربة مترو الأنفاق، الأنفاس لاهثة، والعرق يتساقط من الوجوه.. وجوه مصرية بسيطة شقّ الزمن أخاديده فى دروبها، ورؤوس صبغ العمر والشقاء منابت شعرها بلونه الأبيض، وأيادٍ لا تحمل سوى بعض أرغفة الخبز أو دفاتر العمل، يحاول كل منهم أن يُلهِم جاره الصبر على ما هو فيه. ووسط كل هذا مال رجل بسيط على جاره وقال بإيمان وتقوى: “احمدوا ربنا.. اللى عندهم تكييفات مش بيتمتعوا بيها.. بيجيلهم أمراض.. ده إحنا ف نعمة”!
هذا رجل يحاول أن يروِّح عن نفسه فى هذا الجو الخانق ويحمد الله على نعمه.. جميل.. ولكن ما دخل هذا بربطه بالإيمان والنعيم، كأنّ الفقر والحاجة والعِوَز مرادفات للإيمان، وكأن الثراء ليس نعمة أيضًا من نعم الله عز وجل.. ولكن ما سرُّ هذا الربط؟
الأمر واضح.. إنها منظومة منذ قديم الأزل، نبتة.. يلقى بذرتها الساسة والكبار، وتعتنى بها الحكومات، ويرويها الإعلام، ويأكلها الغلابة.. وما أسهلها: “الفقر ليس عيبًا.. الفقر جميل.. الفقراء أغلب أهل الجنة.. الأغنياء لا يتمتعون بأموالهم فهم مرضى بأمراض خبيثة ولا تنفعهم الأموال.. ألَمْ تشاهد الأفلام -العربية تحديدا- قبل ذلك؟ دائمًا ابن الرجل الفقير مهذب مؤدب يصعد السُّلَّم حتى يصل إلى أعلى درجات المجد، أمين وشريف، ودائمًا ينتصر فى النهاية، أما ابن الرجل الثرى فستجده عابثًا عربيدًا لا هم له سوى مغازلة الفتيات ودائمًا ما يكون مصيره السجن أو القتل. ويتزوج الفقير البنت الجميلة وينتهى الفيلم نهاية سعيدة، ينام الجميع بعدها وبطونهم خاوية ولكنهم يحلمون بنهاية سعيدة مماثلة فى الجنة”! وصفة سهلة.. ومريحة لكل دولة جاهلة ولكل شعب ساذج لا همّ له سوى إلصاق ضعفه أو فقره بالدين ليُسبِغ عليه شرعية تريح ضميره وينام مرتاح البال
نقلاً عن “التحرير”