نور الهدى فؤاد
صوت يجمع ما بين هيبة الشيخ الحصري وخشوع الشيخ المنشاوي وعذوبة الشيخ محمد رفعت وعبقرية التجسيد الأدائي للشيخ محمود علي البنا مع نبرة حادة قاطعة لها شخصيتها المستقلة، ما جعلت صاحبها مسك ختام الجيل الأول لمقرئي القرآن المصريين المعروفين في العالم حتى وصف بآخر حبة في مسبحة القراء العظام، إنه نقيب المقرئين الراحل الشيخ محمد محمود الطبلاوي الذي اختار له ربه أن ينقله لجواره صائما في شهر رمضان الكريم مساء أمس عن عمر ناهز 86 عاما..
بشرى في المنام
في نوفمبر 1934 وفي منزل بسيط بحي ميت عقبة بالجيزة، ولد “الطبلاوي”، بعد أن رأت والدته في منامها جده يبشرها بأن في رحمها ذكرا سيصير حاملا لكتاب الله، فصار حلم والده الذي سعى لتحقيقه، فلم يكتف بإلحاقه بكتاب القرية في عمر الرابعة بل ودفع للشيخ غنيم “قرش صاغ” كاملا بدلا من “تعريفة” للأسبوع الواحد، حتى يحظى برعاية إضافية، وسرعان ما اشترك الشيخ “غنيم” في الحلم الكبير بعد أن استشف قدرات “محمد” الصوتية التي تنذر بتأهله ليصبح مقرئا وتاليا للقرآن الكريم.
وبعد بلوغه التاسعة ذاع صيته في القرية بعد أن ختم القرآن وبدأ الناس يتوافدون للكتاب كل خميس للاستماع له، بل وأصبح يدعى لإحياء المناسبات ومن ثم كسب أول أجر له كمقرئ بقيمة “خمسة صاغ” أعطاها له عمدة القرية فما كان منه إلا أن طار بها إلى السوق ليشتري لحما وخضار لأسرته.
الشهرة وحلم الإذاعة
انتشرت سيرة المقرئ الصغير بما يملكه من صوت قوي وأداء متفرد، حتى صار يستعان به في مختلف المناسبات من زفاف وعزاء في مختلف أحياء القاهرة والجيزة وعرفه علية القوم ممن يحبون إحياء المناسبات الدينية لوجه الله أو إكراما لأهل بيت النبي، حتى صار شابا يراوده حلم القراءة بإذاعة القرآن الكريم كعظماء هذا الزمن أمثال الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل، ليصطدم برفضه مرة تلو الأخرى بسبب اعتماده على فطرته وإحساسه في القراءة بلا إلمام بالمقامات الموسيقية، وبعد الرفض للمرة التاسعة زهد في الأمر وآثر أن يحتفظ بسر تميزه واختلافه، فإذا بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب يعرض عليه أن يعلمه علم النغم فيرفض ثم يناديه الكاتب الصحفي محمود السعدني بمقال “أين أنت يا طبلاوي؟” وهو يقصد أين أنت من الإذاعة والانتشار الذي تستحقه بعد هذا النجاح.
حتى ألان الله له لجنة الاستماع بإذاعة القرآن الكريم التي رفضته مرارا، في قصة تبدوا وكأنهم طلبوه بالاسم لينضم لهم وزجوا نحوه الشيخ عبد الفتاح القاضي الذي قام بدوره في طرح الفكرة على “الطبلاوي” مرة أخرى، لتوافق عليه اللجنة بعد ذلك دون تلاوة آية واحدة بمجرد أن قال “بسم الله الرحمن الرحيم.. يا بركة دعا الوالدين” خلال جلسة الاستماع وفقا لإحدى حواراته الصحفية، ليصبح مقرئا رسميا بالإذاعة المصرية عام 1970 يستمع إليه المسلمون في شتى بقاع الأرض.
سوق الكاسيت
رغم تضارب الأقوال حول بداية غزوه لسوق الكاسيت ما بين رواية عقده مع الشاعر الكبير مأمون الشناوي لصالح شركة صوت الحب للإنتاج ورواية المنتج المسيحي الذي تخلى عنه أحد المقرئين فعرض عليه “الطبلاوي” أن يحل محله، إلا أن تصدره مبيعات الكاسيت منافسا لكبار مطربي السبعينات والثمانينات معروفا، خاصة وأنه كان الأحدث عهدا وشهرة بين زملائه، إذ يبدوا أنه نال شيئا من كرامات القرآن كما يقول في حواراته، عندما وصف القارئ الناجح بأنه لا بد أن يكون معطاءً كريما، ويزكي عن تلك الهبة العظيمة التي منحه الله ولا يرفض القليل وألا يسعى خلف المال وإنما يخلص للقرآن ويثق في كراماته، واصفا معظم شباب المقرئين اليوم بالمقلدين والباحثين عن الشهرة.
التلاوة في جوف الكعبة
يروي الشيخ “الطبلاوي” عن نادرة تلاوته القرآن في جوف الكعبة التي لم يسبقه بها قارئ، بأمر من العاهل السعودي الراحل الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود في أثناء مشاركته لغسل الكعبة السنوي، وحصل بعدها على قطعة من كسوة الكعبة الشريفة.
نجاته من الموت
حكى “الطبلاوي” رحمه الله في إحدى حوارته عندما سئل عن أغرب نادرة مرت عليه كمقرئ، فقال إنه في أحد المعازي قدم الساقي له القهوة وكلما مد يده بين تلاوة الآيات ليتناولها وجد الفنجان يبتعد فلا يستطيع إمساكه حتى أتاه عامل الميكروفون فقال له “القهوة بردت” فرد الطبلاوي “أشربها أنت” وإذا بالرجل يتجرعها ثم يسقط ميتا وكأن بالقهوة سم.
تاريخ طويل من العطاء
سجل نقيب المقرئين الراحل ما يقرب من 2300 تلاوة بالإضافة لمصحف مرتل ظل يطالب بإذاعته مرارا على إذاعة القرآن الكريم كما سجله كاملا للكويت والسعودية، بخلاف عشرات الابتهالات التي سجل بعضها خلال عمله بالإذاعة المصرية والبعض الآخر خارجها، منها “يا صاحب الهم” و “يارب قد فسد الزمان” و”أنا يا إلهي نحو عفوك مرتكن” ، وعلى موقع الصوتيات “السوند كلاود” حساب بأسمه يحمل عددا من تلك الابتهالات، وكذلك موقع الفيديو “يوتيوب” ومن ذلك إحدى ابتهالاته على التليفزيون المصري التي قدمه لأدائها الفنان سمير صبري.
وبخلاف تحقيقه حلم أن يصبح مقرئ الجامع الأزهر بعد وفاة المقرئ الكبير مصطفى اسماعيل ولمدة 30 عاما، شغل الراحل منصب نقيب المقرئين خلفا للراحل أبو العنين شعيشع، النقابة التي نادى المسئولون من أجلها في كل لقاءاته الإعلامية، لتحصل على مقر ودعم مادي من الدولة ومن وزارة الأوقاف، كما لم يكف عن طلب رفع معاش المقرئين من 50 جنيه إلى 500 على الأقل، وهو ما لم يحدث حتى اليوم.
تكريمات وحفاوة
تلقى “الطبلاوي” عشرات التكريمات من رؤساء وزعماء العالم بسفرياته التي بلغت 100 دولة قرأ خلالهم القرآن لعشرات الأجناس وحكم في مسابقات ومثل الأوقاف المصرية والأزهر الشريف، كما حظى باهتمام رؤساء مصر بداية من الرئيس محمد أنور السادات الذي كرمه عدة مرات وأحب سماعه وطلبه في المناسبات إذ كانت تربطه صداقه بأخيه عصمت، وطلبه محمد حسني مبارك لعزاء حفيده محمد علاء.
كما كان تجمعه علاقات طيبة بأهل الفن فقد كان صديقا للموسيقار محمد عبد الوهاب وذو علاقة جيدة بأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحبا لصوت سعاد محمد، وأعتاد أن يتلقى مكالمات الإشادة والثناء منهم.
الأب الروحي
أثمرت زيجات “الطبلاوي” الثلاث عن 13 ابن وابنة أخرهم “عمر” طفل لم يتعد عمره 10 سنوات، بينما لم يرث موهبته وترتيله إلا ابنه “محمد”، ولكن مكانته الكبيرة جعلته “الأب الروحي” في قلوب عشرات المقرئين والمبتهلين في مصر والعالم العربي.