“المجال” كلمة تتردد في وسائل الإعلام المصرية عند وصف العاملين في إنتاج المسلسل والأفلام، فيقال “أحد رموز المجال الفني؟” وأحيانا تستبدل بكلمة “الوسط” لتقرأ عناوين مثل “نجم جديد يبزغ في الوسط الفني”، ونادرا ما تستخدم كلمة “صناعة” وإذا تم استخدامها فغالبا في سياق التفخيم لشخصية مهمة مثل “أحد أعمدة صناعة الفن في مصر” فـ هل فعليا هناك صناعة تسمى صناعة الفن؟
الصناعة: هي عملية تحويل شكل المواد الخام ومضمونها، لزيادة قيمتها، وذلك باستخدام أدوات مناسبة، وأشخاص متخصصين، بغاية جعلها قابلة لإشباع حاجة معينة سواء إن كانت وسيطة أو نهائية.
ومن هنا تكمن واحدة من أزمات صناعة المسلسلات في مصر كجزء من صناعة الفن في مصر، تكمن في كلمة “صناعة” فبمنطق التعريف السابق، فالمسلسلات “صناعة” بلا شك حيث يتم تحويل المواد الخام “السيناريو” و”الممثلين” باستخدام أدوات “الكاميرات” و”المونتاج” وغيرها، وأشخاص متخصصين “المخرج” “مدير التصوير” وغيرهم.. لزيادة قيمتها لتصبح “مسلسل”.. بغاية جعلها قابلة لإشباع حاجة “الجمهور والمشاهد” في الترفيه والمعلومات والثقافة.. إلخ.
ولكل صناعة في العالم مقومات لظهورها، مثل الموقع، توافر المواد الخام، الطاقة، الأيدي العاملة، الخبرات، الأسواق
وكل ما سبق يتوافر في مصر التي بدأت صناعة السينما منذ أكثر من 100 عام، وصناعة المسلسلات من 60 عاما، كل ما سبق يقودنا لإجابة سؤال المقال السابق عن تراجع أو تذبذب مستوى المسلسلات “المنتجات”، فهل يتم التعامل معها بشكل منظم أم أن الأمر يتم بشكل عشوائي؟ وهو ما يمكن أن نختبره، لو سألنا بعض الأسئلة الأساسية:
أولا: هل الصناعة تتعامل مع احتياجات السوق بشكل علمي؟ هل لديها معلومات وأرقام واضحة عن احتياجات المستهلكين وسلوكهم الاستهلاكي للمسلسل “المنتج”، هل يمكن أن نقدم له “منتج” جديد ونقنعه بأنه يحتاج له، أم علينا أن نكتفي بما يريده فقط ونعمل عليه؟ هل يمكن تقسيم المستهلكين لأنواع؟ هل نخاطب كل المستهلكين أم شرائح معينه (أم نعمل بمبدأ “ماحدش بيغسل ويضمن جنه”).
ثانيا: هل نهدف للإنتاج المحلي فقط أم نسعى للتصدير أم الاثنين معا؟ وهل نحن نصدر منتجنا المرغوب من مستهلكين أجانب أم نحتاج أن نستخدم نفس الأدوات لإنتاج منتجات ملائمة لهم.
ثالثا: هل الصناعة جاذبة للخبرات والمتخصصين؟ وكيف يتم تقييم الخبرة والتخصصة؟ وكيف يمكن إثبات تلك الخبرات والتخصص أم الأمر يدار بمنطق الاستثمارات العائلية أو ما يسمى الـ family business (منطق شغل المعلم لابنه).
رابعا: هل توفر الصناعة طريقة لدخول العمال الجدد، لزيادة الإيدي العاملة ورفع مستواها، وكيف يتم ذلك؟ هل تعتمد على أكاديميات متخصصة، أم على ورش عمل داخلية؟ أم على دعم مشاريع صغيرة؟
خامسا: هل هناك إدارة للجودة؟ هل هناك إدارة لدورة تصنيع المنتج ومدى التزامه بالمواصفات القياسية؟ هل هناك إدارة للبحوث والتطوير تسعى لتلافي عيوب التصنيع للمنتجات السابقة؟
سادسا: هل هناك خطة مستقبلية للاستثمار، سواء بالتوسع الرأسي (عدد المنتجات) أم الأفقي (عدد الأسواق)، وهل نعرف خطتنا للـ 3 أعوام المقبلة؟
أسئلة كثيرة أخرى، ستشعر بمشكلة كبيرة في الإجابة عليها، أو أن أجوبتها سلبية، فـ بالرغم من أنها صناعة عالية التكاليف (تصل تكلفة المسلسل الواحد بين 40 و100 مليون جنيه مصري)، وعالية الأرباح، ودورة رأس المال فيها قصيرة المدى (أقل من عام)، إلا أن الأمر في كثير من الأوقات يتم التعامل معه بنفس منطق “باعة الأعلام” قبل مبارايات كرة القدم فـ المنتخب لديه مباراة هامة، ينتج المصنع كمية من الأعلام، يبيعها جملة لبعض التجار، ليبعوها قطاعي لبائعين متجولين، ينزل البائعون قبل المباراة بأيام قليلة للميادين، ويظلوا يبعوها حتى بدء المباراة، لو فاز المنتخب، يظلوا في الشارع فقد يشتري الناس للاحتفال، ولو خسر المنتخب يرحلوا ويكتفوا بما جمعوه في هذا الموسم، ونلتقي في مباراة أخرى وموسم آخر.
في 13 يوليو من عام 1925، حصل طلعت حرب على ترخيص تأسيس شركة مساهمة مصرية عرفت بـ “شركة مصر للتايترو والسينما” برأس مال 15 ألف جنيه واستغل طلعت حرب سفره الكثير لأوروبا، لدراسة صناعة السينما الوليدة هناك، ولذلك عندما بدأ الشركة، تعامل معها كصناعة وقام ببناء ستوديو مصر عام 1935، ومعامل لتحميض الأفلام وطباعتها، وبدأ العمل على إنتاج الأفلام..
طلعت حرب ساهم في تأسيس بنك مصر والعديد من الشركات العملاقة التي تحمل اسم مصر، مثل (شركة مصر للغزل والنسيج ومصر للطيران ومصر للتأمين ومصر للمناجم والمحاجر ومصر لصناعة وتكرير البترول ومصر للسياحة)، وغيرها، وهو أوضح دليل على أن “الفن” صناعة تحتاج لرؤية اقتصادية وفنية معا.
لذلك فجوهر أزمة صناعة الفن والترفيه في مصر، تكمن في أنها لسنوات كثيرة وفترات طويلة، لم يتم التعامل معها بمنطق أنها صناعة حقيقية تحتاج لإدارة ولخطط واستثمارات وخبرات في مجالات مختلفة، فـ الممثلون في هذه المنظومة هم أقرب للمواد الخام التي يتم تشكيلها في كل مرة لتكوين “منتج”، وبالتالي من الصعب أن يكون ذلك الجزء الكبير من قرارات الصناعة “التخطيطية” في يدهم، وكذلك المعلنين هم مثل الممولين والمستثمرين من الصعب أن يكون جزءًا كبيرًا من قرارات الصناعة “الفنية” في يدهم.
صناعة الفن في مصر، لم تنهار فما زالت تنتج وتسوق أعمالها في كل مكان، ولن تنهار لأنها تملك الكثير من الأصول والخبرات التي تجعلها راسخة بشكل قوي، ولكنها تذبذب وتتراجع في فترات مختلفة تحتاج معها مراجعة وإعادة تقييم، خاصة وأن رمضان 2020 يشهد دخول منصات العرض على الإنترنت عالم الصناعة كلاعب أساسي في السوق المصري، فبعد سنوات من تكرار عبارة “الإنترنت قادم”، نحن الآن دخلنا عصر الإنترنت.. فهل يمكن أن نستغل ذلك؟.. للحديث بقية.