د.خالد أبو زيد
تسبّبَ مشروع سد النهضة الإثيوبي المثير للجدل، على النيل الأزرق، في تعكير صفو العلاقات بين مصر وإثيوبيا والسودان. وقد لفت المشروع انتباه العالم إلى الاضطرابات المحتملة في العلاقات بين إثيوبيا، كلاعب رئيسي في القرن الأفريقي، من جهة، ومصر، لأهميتها الاستراتيجية كنقطة التقاء مركزية للقارات الثلاث في أفريقيا وآسيا وأوروبا وبلد محوري في حفظ التوازن والسلام والأمن في المنطقة العربية والشرق الأوسط، من جهة أخرى.
انتهاكات إثيوبيا للقانون الدولي
ينظر المصريون إلى مشروع السد الإثيوبي، الذي أعلنت أديس أبابا من جانب واحد عن تشييده في أبريل 2011 على النيل الأزرق؛ أكبر رافد نهر النيل وأطول نهر في العالم، كمشروع قائم على استغلال الفراغ السياسي في مصر فور تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك قبل فترة وجيزة من ذلك التوقيت. ويعتبر إطلاق بناء السد بدون التشاور مع مصر انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي، والاتفاقية الموقعة بين إثيوبيا ومصر في العام 1993، واتفاقية 1902 الموقعة بين إثيوبيا والمملكة المتحدة، والتي توجب على الجانب الإثيوبي التشاور مع دول المصب بشأن أي مرافق إثيوبية قد تؤثر على تدفقات المياه من منابع النيل، عبر النيل الأزرق وبحيرة تانا ونهر السوباط المتدفقة في اتجاه المصب إلى الأراضي السودانية والمصرية. ولكن يبدو أن إثيوبيا تنظر إلى منابع نهر النيل الناشئة داخل أراضيها على أنها مسألة تتعلق بالسيادة المطلقة وأن الاتفاقات الموقعة بين إثيوبيا ومصر أو المملكة المتحدةغير ملزمة لأديس أبابا.
وللأسف، لم يجرى تقييم شامل للأثر الهيدروليكي، أو تقييم الأثر البيئي، أو دراسات تقييم للأثر الاجتماعي الاقتصادي فيما يتعلق بمشروع السد الإثيوبي ولم تشارك إثيوبيا أيًا من ذلك مع دول المصب بوجه عام، كما لم يحدث تشاور بين إثيوبيا والبلدان المتأثرة بشكل مباشر أي مصر والسودان. إن هذه الإجراءات البديهية التي تجرأت إثيوبيا على تجاهلها تشكّل متطلباتٍ أساسية من وجهة نظر القانون الدولي. حتى عندما اتفقت الدول الثلاث على تكليف مستشار دولي بإجراء دراسات تقييم الأثر المشترك، عطلت إثيوبيا الدراسات حتى قبل أن تبدأ، فمارست الضغط على المستشار لإعادة تحديد “الشروط الأساسية” لتشمل خطط لإثيوبيا المستقبلية ذات الصلة بإنشاء سدود إضافية كجزء من الشروط الأساسية فس نسختها الحالية؛ وبديهي أن تعديل المصطلحات المتفق عليها عالميًا من شأنه أن يقوض الغرض من إجراء دراسات تقييم الأثر برمته. وتجنبت إثيوبيا حضور الاجتماع النهائي في سلسلة المفاوضات التي أجريت تحت رعاية الولايات المتحدة وساهم البنك الدولي في تيسيرها في أواخر يناير 2020، ومن ثم؛ أعلنت إثيوبيا اعتزامها بدء ملء خزان السد في يوليو 2020 قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع مصر والسودان. ويعد هذا السلوط انتهاكًا آخر للقانون الدولي، لأنه سيكون بالمخالفة لإعلان المبادئ الذي وقعت عليه البلدان الثلاثة في عام 2015. وينص إعلان المبادئ على أن الدول الثلاث توافق على المبادئ التوجيهية والقواعد ذات الصلة بالتعبئة الأولى والتشغيل السنوي لسد النهضة، مما يعني أن الملء الأولي لا يجب أن يتم بدون اتفاق بين الدول الثلاث على تلك المبادئ التوجيهية والقواعد الحاكمة.
ماذا يعني النيل والنيل الأزرق بالنسبة لمصر؟
على عكس أي نهر آخر في العالم، يمثل النيل، بل والنيل الأزرق، مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر، ما دفع المؤرخ اليوناني هيرودوت لتدوين مقولته الخالدة: “مصر هبة النيل”. ولكي نفهم هذه العبارة من وجهة نظر فنية، دعونا نلقي نظرةً على المعلومات الواقعية التالية. إن 85٪ من مياه النيل المتدفقة إلى مصر تنبع من إثيوبيا من خلال روافد النيل الأزرق وعطبرة والسوباط. كما أن 67 ٪ من مياه النيل التي تحصل عليها مصر والسودان و تستخدمها تأتي بالفعل من النيل الأزرق. ويبلغ متوسط التدفق السنوي للنيل الأزرق حوالي 50 مليار متر مكعب في السنة، في حين أن الاستخدامات التاريخية لمصر، المكتسبة والموثقة من حقوق المياه تبلغ 55.5 مليار متر مكعب / السنة. من الناحية النظرية، يمكن للمرء أن يعتبر أن تدفق النيل الأزرق من إثيوبيا يمثل من حيث الحجم ما يقدر بنحو 90٪ من الاستخدامات التاريخية لمياه النيل في مصر. إن نهر النيل هو المصدر الوحيد للمياه المتجددة لمصر، التي تعتمد على النيل في تلبية حوالي 97٪ من احتياجاتها من المياه، ويهدد سد النهضة والموقف الإثيوبي في التعامل مع هذه القضية مصير شريان الحياة وسبل العيش والأمن القومي لمصر.
محاولات التعدي على حقوق مصر المائية البالغة 55.5 مليار متر مكعب
على الرغم من أن الهدف المعلن لإنشاء سد النهضة الإثيوبي هو توليد الطاقة الكهرومائية، إلا أن الاستراتيجية الإثيوبية في التفاوض على اتفاقية ملء خزان السد وقواعد التشغيل منذ القرار الإثيوبي الأحادي الجانب لبناء السد، قد تشير إلى هدف مختلف تمامًا عن توليد الطاقة الكهرومائية. فقد مرت عشر سنوات تقريبًا من المماطلات الإثيوبية دون التوصل إلى اتفاق مع دولتي المصب؛ مصر والسودان.
إن مخططات إثيوبيا المستقبلية تشي بأن أديس أبابا عازمة على استخدام المياه المخزنة خلف سد النهضة لأغراض الاستهلاك مثل ري الأراضي الزراعية والأغراض الصناعية وغيرها. وأظهرت الدراسات أنه نظرًا للسعة المبالغ فيها لتصميم خزان السد التي تصل إلى 74 مليار متر مكعب، والقواعد التشغيلية المتوقعة لزيادة توليد الطاقة الكهرومائية إلى أقصى حد ممكن، فإن الآثار التراكمية لخسارة المياه بسبب التسرب والبَخْر من مياه الخزان تضر تدفقات نهر النيل الأزرق، وبالتالي من المحتمل أن يمثل الخزان بهذا الحجم انتهاكًا لقدرة مصر على الاستمرار في استخدام حقوقها المائية واستخداماتها التاريخية السنوية البالغة 55.5 مليار متر مكعب.
كان الهدف من المواقف الإثيوبية خلال المفاوضات والبيانات الصحفية التي أعقبت المفاوضات هو إطلاق يد إثيوبيا في التصرف كما يحلو لها في منابع النيل ومحاولة تجريد مصر من حقوقها في حصتها الضئيلة من مياه النهر الخالد البالغة 55.5 مليار متر مكعب / سنة.
لطالما كانت اللهجة التي تبنتها إثيوبيا رسميًا وإعلاميًا تحاول تشويه سمعة حقوق المائية لمصر، باستخدام عبارات مثل “حصة مصر من المياه المتنازع عليها”، و”مصر تطالب بـ 55.5 مليار متر مكعب”. وتعمدت إثيوبيا مرارًا وتكرارًا تمرير المعلومات المضللة إلى المجتمع الدولي حول إمكانات المياه الكاملة لحوض النيل وتحاول تضليل المجتمع الدولي كذلك من خلال الترويج لأساطير مثل “مصر تستخدم كل مياه النيل”.
وأشار مقال نشره موقع إثيوبيا إنسايت الإخباري بتاريخ 2 أبريل 2020 إلى تصريحات مفاوضين إثيوبيين زعموا أن “مصر والولايات المتحدة، خلال المفاوضات التي تمت برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي خلال العامين 2019 و2020 قد اقترحتا خطةً غير قابلة للتعديل، والتي ترقى إلى تدابير بغرض “تخصيص المياه” على نحو يحمي حصة مصر السنوية البالغة 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل”، وهي مزاعم مخالفة لحقيقة أن مسودة اتفاقية سد النهضة التي طرحت في 21 فبراير 2020 (والتي رفضتها إثيوبيا) كانت ثمرة المفاوضات لعامي 2019 و2020 بين إثيوبيا ومصر والسودان، ولم تكن باي حال من الأحوال مقترحة من قبل مصر والولايات المتحدة، وقد صيغت الاتفاقية للتأكد من أن ملء وتشغيل سد النهضة لن يشكل ضررًا كبيرًا لمصر والسودان.
إذن؛ لم يكن هناك ترتيبات “لتخصيص المياه”، ولكنه كان اتفاقًا، يحاول مراعاة زيادة توليد الطاقة الكهرومائية إلى أقصى حد، كما يحاول أيضًا خفض آثار الضرر الكبير الذي يسببه السد على قدرة مصر والسودان على الاستمرار في ممارسة حقوقهما المائية واستخدامهما التاريخي لمياه النيل. يمكن اعتبار أي محاولات لتجاهل هذه الآثار انتهاكًا لحقوق مصر والسودان. من ناحية أخرى، إذا كان الهدف من سد النهضة هو توليد الطاقة الكهرومائية الذي يفترض أنه استخدام غير استهلاكي، فلماذا تثير إثيوبيا أثناء المناقشات الحديث عن حق مصر في حصتها البالغة 55.5 مليار متر مكعب في السنة ولماذا تحاول تجريد مصر من هذا الحق ؟!
بالحديث عن الاستخدام العادل، هل يعد كثيرًا على مصر التي يعيش فيها 20٪ من تعداد سكان دول حوض النيل مجتمعةً الاستفادة بنحو 3٪ فقط من إجمالي حجم الأمطار في حوض النيل البالغ 1660 مليار متر مكعب / سنة من الأمطار، أو حتى 0.8٪ من إجمالي 7000 مليار متر مكعب / سنة تمثل هطول الأمطار في دول النيل ؟! إن إثيوبيا تستفيد بالفعل من 23٪ من الأمطار في حوض النيل أو 12٪ من الأمطار في دول النيل. إنه بالتأكيد سبب مختلف أكثر بكثير من نقص الموارد المائية في إثيوبيا الذي يدفعها إلى التعدي على الحقوق المائية للبلدان المجاورة. ومن أجل تأكيد ذلك ومن أجل إلقاء مزيد من الضوء على هذه المسألة، دعنا نلقي نظرة فاحصة على موارد إثيوبيا المائية المتجددة.
الأمطار في إثيوبيا هي المياه الخضراء لإثيوبيا والمياه الزرقاء لمصر
تتمتع إثيوبيا بوفرة الأمطار التي يبلغ متوسطها حوالي 848 مم / سنة، في حين تعتبر مصر، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، البلد الأقل في معدل هطول للأمطار في العالم حيث يبلغ حوالي 18.1 مم / سنويًا.
وتعتمد إثيوبيا بشكل رئيسي على الأمطار المباشرة (المياه الخضراء) في استخداماتها الاستهلاكية، وعلى تدفقات الأنهار (المياه الزرقاء) في توليد الطاقة الكهرومائية، في حين أن مصر هي دولة المصب لنهر النيل الذي تشترك فيه 11 دولة، وتعتمد في تدبير الاستخدامات الاستهلاكية وغير الاستهلاكية على تدفقات نهر النيل (المياه الزرقاء) الناشئة خارج حدودها السياسية والتي تمر عبر أراضيها الصحراوية. لهذا السبب، بالنسبة لإنتاج الغذاء، تعتمد إثيوبيا بشكل أساسي على الزراعة المطرية، بينما تعتمد مصر بشكل أساسي على الزراعة القائمة على الري.
وينعكس هذا أيضًا على إنتاج إثيوبيا أكبر عدد من الماشية في أفريقيا حيث يتجاوز 106 ملايين رأسًا؛ تتغذى على المراعي المطرية الشاسعة، في حين تستورد مصر، بسبب ندرة المياه، غالبية منتجاتها من الماشية واللحوم، وهي أكبر مستورد للقمح في العالم. وتشير التقديرات إلى أن الماشية في إثيوبيا تستهلك حوالي 84 مليار متر مكعب في السنة من المياه الافتراضية المضمنة في مراعيها المطرية (المياه الخضراء).
وهذا يعادل التدفق الكامل لنهر النيل الطبيعي عند مدينة أسوان، وأكثر من حصص المياه السنوية لمصر والنيل مجتمعة (74 مليار متر مكعب).
من ناحية أخرى، تستهلك مصر، حوالي 19 مليون رأس من الماشية، أي نحو سدس استهلاك قطاع الإنتاج الحيواني للمياه في إثيوبيا، و14 مليار متر مكعب / السنة فقط من المياه الافتراضية المضمنة في الأعلاف المزروعة بناء على الري (المياه الزرقاء) والأعلاف المستوردة في الغالب.
وبمقارنة تأثير هطول الأمطار على الغطاء الأرضي في إثيوبيا ومصر التي تبلغ مساحتها المماثلة حوالي مليون كيلومتر مربع، ووفقًا لتحليل صور الغطاء الأرضي التي تم الحصول عليها عبر القمر الصناعي التابع لوكالة الفضاء الأوروبية (ESA)، فإن حوالي 94٪ من مساحة إثيوبيا هي مساحة خضراء بما في ذلك الأراضي الزراعية المطرية والمراعي والغابات باستخدام “المياه الخضراء”، في حين أن حوالي 94٪ من مساحة مصر عبارة عن أراضٍ صحراوية، يمتد وادي رقيق على طول “المياه الزرقاء” لنهر النيل.
أين تذهب 936 مليار متر مكعب من الأمطار السنوية في إثيوبيا ؟!
وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، تتلقى إثيوبيا في المتوسط حوالي 936 مليار متر مكعب / سنويًا من الأمطار. أين تذهب هذه المياه !؟ استنادًا إلى تصنيف وكالة الفضاء الأوروبية للغطاء الأرضي، يقع 910 مليار متر مكعب من هذا المطر على الغطاء الأخضر بما في ذلك الأراضي الزراعية المطرية والمروية والغابات والمراعي، بينما يسقط 26 مليار متر مكعب من هذا المطر على المسطحات المائية والأراضي الحضرية والجرداء.
يتم استخدام حوالي 680 مليار متر مكعب بشكل مفيد واستهلاكه في الزراعة المطرية (107 مليار متر مكعب)، والزراعة المروية (10 مليار متر مكعب)، والمراعي (352 مليار متر مكعب) والغابات (211 مليار متر مكعب). وتتبخر 29 مليار متر مكعب من المياه في الأراضي القاحلة والمناطق الحضرية والسدود. وهناك 105 مليار متر مكعب تساهم في ارتفاع رصيد إثيوبيا من طبقات المياه الجوفية كمياه جوفية متجددة.
ووفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة، تساهم حوالي 122 مليار متر مكعب من الأمطار البالغة 936 مليار متر مكعب في مجاري المياه السطحية والأنهار، حيث يخرج حوالي 97 مليار متر مكعب من البلاد عبر الأنهار العابرة للحدود والمياه الجوفية إلى البلدان المجاورة؛ مصر، السودان، إريتريا، كينيا، الصومال، وجيبوتي. يساهم 25 مليار متر مكعب المتبقية من المياه السطحية في البحيرات والجداول الداخلية داخل إثيوبيا.
يشير التحليل أعلاه إلى أنه من بين 936 مليار متر مكعب من الأمطار السنوية في إثيوبيا، تستفيد البلاد من 117 مليار متر مكعب في الزراعة، و352 مليار متر مكعب في المراعي (يساهم جزء منها في الإنتاج الحيواني)، و211 مليار متر مكعب في الغابات للتنوع البيولوجي والسياحة وإنتاج الأخشاب، علاوة على رصيد يبلغ 105 مليار متر مكعب يضاف إلى المياه الجوفية المتجددة، بالإضافة إلى 25 مليار متر مكعب في المياه السطحية التي تبقى في الأنهار والجداول داخل الدولة. وتغادر 126 مليار متر مكعب المتبقية البلاد من خلال الأنهار العابرة للحدود (97 مليار متر مكعب) وما بعدها وهي عرضة للخسارة بسبب التبخر (29 مليار متر مكعب). إن كمية صغيرة من هذه الإمكانات الهائلة لموارد المياه المتجددة هي التي تدعم الإثيوبيين أي أكثر من 100 مليون نسمة بالمياه المنزلية والري والمياه اللازمة للاستخدامات الصناعية وغيرها. ما زالت موارد المياه المتجددة المتبقية موجودة داخل الدولة على أساس سنوي متوافرة للأجيال القادمة دون المساس بـ 97 مليار متر مكعب من التدفقات العابرة للحدود التي بالكاد تدعم السكان الحاليين في البلدان المجاورة، وبصفة خاصة مصر.
يتلقى حوض نهر النيل، وهو أحد أحواض الأنهار العديدة في إثيوبيا، ما متوسطه 450 مليار متر مكعب من الأمطار من 936 مليار متر مكعب من الأمطار على مستوى البلاد.
مقارنة حصة الفرد من موارد المياه المتجددة في إثيوبيا ومصر
ترتبط التنمية المستدامة ارتباطًا وثيقًا بتوافر موارد المياه العذبة المتجددة. بغض النظر عن المبلغ الذي تستثمره الدولة في تطوير موارد مائية بديلة وغير تقليدية، لا شيء يمكن أن يحل محل المياه العذبة المتجددة الطبيعية والمستدامة. وبمقارنة موارد المياه المتجددة المتاحة في إثيوبيا مقابل مصر، نرى أن إثيوبيا تتلقى في المتوسط حوالي 936 مليار متر مكعب في السنة من الأمطار المتجددة. وبطرح خسائر التبخر والمياه العابرة للحدود الخارجة من الدولة، يتبقى في البلاد 810 مليار متر مكعب / سنة من موارد المياه المتجددة، والتي تساهم في الزراعة المطرية، والإنتاج الحيواني، والمياه السطحية، وزيادة رصيد المياه الجوفية (مصدر متجدد مهم للمياه المنزلية والري التكميلي) . وتتجاوز هذه المياه إلى حد بعيد مستويات إستهلاك طلب إثيوبيا التي يبلغ تعدادها 100 مليون نسمة على المياه. من ناحية أخرى، يحق لمصر 55.5 مليار متر مكعب في السنة من مياه حوض النيل لجميع استخداماتها، بما في ذلك الزراعة القائمة على الري والاستخدامات المنزلية والصناعية. إذا تمت إضافة كمية صغيرة من الأمطار المتقطعة التي تبلغ 1.5 مليار متر مكعب إلى مياه النيل، فإن موارد المياه المتجددة في مصر تصل إلى 57 مليار متر مكعب في السنة. يتم إعادة استخدام هذه المياه وإعادة تدويرها عدة مرات لتلبية جزء من طلب مصر على المياه لأكثر من 100 مليون نسمة.
ويتعين على مصر أن تستثمر في إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة، وتحلية مياه البحر، والاستعانة بالواردات الغذائية من أجل سد فجوة الطلب على المياه.
توفر موارد المياه المتجددة السنوية في مصر حوالي 570 متر مكعب للفرد في السنة من موارد المياه المتجددة، وهو ما يقل عن حد ندرة المياه وفقًا للرقم العالمي البالغ 1000 متر مكعب للفرد سنويًا. من ناحية أخرى، توفر موارد المياه المتجددة في إثيوبيا حوالي 8100 متر مكعب للفرد في السنة من موارد المياه المتجددة.
. وقد خلقت ظروف هيدرولوجية طبيعية مماثلة نهر النيل العابر للحدود الذي نشأ في المرتفعات الإثيوبية والهضبة الاستوائية في اتجاه مجرى النهر ويمر عبر صحاري مصر. وتكيفت مصر مع هذه الظروف القاسية وتعتمد على نهر النيل لقرون دون مشاكل. لكن ما يمكن أن يخلق مشكلة، هو عندما تحاول الدول الغنية بوفرة المياه أن تنتهك موارد المياه التي تعاني أصلا من الندرة في مصر.
المياه الافتراضية تحكي المزيد عن قصة مياه إثيوبيا واستخدامات المياه
في جانب الطلب، يعتبر قطاع الزراعة والثروة الحيوانية الأكبر استهلاكًا للمياه. إذا أجرينا مقارنة سريعة حول “المياه الافتراضية” (المياه المضمنة في المنتجات) في الواردات والصادرات لكل من إثيوبيا ومصر والإنتاج المحلي في هذا القطاع، فيمكن استنتاج الكثير حول توفر الموارد المائية وحالة المياه في البلدين.
يعتمد التحليل التالي على بيانات موقع waterfootprint.org وبيانات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة حول الإنتاج الزراعي والحيواني والصادرات والواردات.
تعتمد مصر على استيراد كمية كبيرة من طعامها بسبب ندرة المياه.
في عام 2012، عندما بدأ بناء سد النهضة الإثيوبي بشكل جدي، استوردت مصر منتجات زراعية ولحوم تعادل حوالي 48 مليار متر مكعب من “المياه الافتراضية” بتكلفة تزيد عن 12 مليار دولار، في حين استوردت إثيوبيا، التي يبلغ عدد سكانها المماثل، في عام 2012 حوالي 5.7 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية في الزراعة ومنتجات اللحوم بتكلفة 1.2 مليار دولار، وهو عُشر (1/10) تكلفة واردات مصر الغذائية. من ناحية أخرى، قامت إثيوبيا بتصدير أكثر من 6.4 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية في المنتجات الزراعية والثروة الحيوانية، وهو ما يزيد عن 5.2 مليار متر مكعب في مصر من صادرات المياه الافتراضية من الزراعة والثروة الحيوانية في نفس العام. وبلغت قيمة هذه الصادرات الإثيوبية حوالي 2 مليار دولار، وهو ضعف قيمة الصادرات الزراعية المصرية بنحو مليار دولار في ذلك العام.
تم تقدير المياه الافتراضية المضمنة في الزراعة المحلية السنوية في إثيوبيا والإنتاج الحيواني في عام 2012 بحوالي 124 مليار متر مكعب، بشكل رئيسي من مساهمة الأمطار المباشرة (المياه الخضراء). من ناحية أخرى، في مصر، قدرت المياه الافتراضية المضمنة في الزراعة المحلية والإنتاج الحيواني في عام 2012 بحوالي 78 مليار متر مكعب بشكل رئيسي من مياه الري (المياه الزرقاء) والمياه المعاد استخدامها والأعلاف المستوردة.
ليس من الإنصاف أن تكون لديك الكعكة وتلتهمها وحدك!!
بمقارنة المياه الافتراضية في الواردات والإنتاج المحلي بين مصر وإثيوبيا، وهو ما يعكس طلب كل دولة على المياه في هذا القطاع، نرى أن المياه الافتراضية السنوية لمصر في الزراعة والثروة الحيوانية تبلغ 126 مليار متر مكعب، في حين أن المياه الافتراضية السنوية لإثيوبيا في هذا القطاع تبلغ حوالي 129 مليار متر مكعب. على الرغم من أن الدولتين تتفقان على استخدام نفس الكمية تقريبًا من المياه لتلبية احتياجات تعداد سكان مماثل، إلا أن الفرق هو أن إثيوبيا توفر 95 ٪ من هذه المياه من مواردها المائية المتاحة (124 مليار متر مكعب)، في حين أن مصر يمكن أن توفر 37 ٪ فقط من هذه المياه من الموارد المائية المتاحة (47 مليار متر مكعب) والتي تنشأ بشكل رئيسي في إثيوبيا. علاوة على ذلك، يتعين على مصر إنفاق أكثر من 12 مليار دولار لإتاحة 38٪ من هذه الاحتياجات من المياه عن طريق الواردات وكان عليها أن تستثمر أكثر لتوفير 25٪ المتبقية من هذه الاحتياجات من المياه بإعادة تدوير مياه الصرف الصحي وتحلية مياه البحر بالإضافة إلى المياه الجوفية والاستعانة بالأعلاف المستوردة. والآن، فإن 37٪ ومعظم 25٪ من احتياجات مصر المائية المتاحة للزراعة والثروة الحيوانية معرضة للخطر بسبب السد الإثيوبي، وأنشطة إثيوبيا الأحادية واستمرار الرسائل الإثيوبية حول حرية استخدام مياه نهر النيل.
يعكس التحليل أعلاه كيف أن وفرة المياه في إثيوبيا تسمح لها بزراعة غذائها على عكس مصر، وتتيح الموارد المائية الغنية لإثيوبيا فرصة تصدير مياه افتراضية أكثر مما يمكن لمصر تصديره لتوفير بعض الأموال اللازمة لاستيراد منتجات غذائية منخفضة التكلفة. ظل كلا البلدين يعيشان على مصادر متنوعة للمياه. تعتمد إثيوبيا في أعلى النهر على المياه الخضراء من الأمطار مباشرةً، وبعضها داخل حوض النيل، بينما تعتمد مصر في اتجاه مجرى النهر فقط على المياه الزرقاء من نهر النيل نفسه. علاوة على ذلك، يجب على دولة شحيحة مثل مصر أن تنفق أموالًا أكثر من دولة مائية وفيرة مثل إثيوبيا لتوفير احتياجاتها الغذائية.
إنها قوة الطبيعة التي نتج عنها اعتماد غير متوازن على المياه الخضراء في الحوض في مجرى النهر مقابل المياه الزرقاء في مجرى النهر نفسه. وليس من الإنصاف في شيء أن يكون لديك كمية وفيرة من المياه الخضراء، ولا تزال تراقب الكميات الصغيرة التي تحصل عليها الدول المجاورة من المياه الزرقاء! “ليس منطقيًا أن تكون لديك الكعكة وتلتهما وحدك!” يجب ألا تتجاهل الدول المشاطئة داخل حوض نهر مشترك “المياه الخضراء” المتجددة الخاصة بها وإمكانات الأمطار داخل الحوض، أو أن تقوم بدلاً من ذلك في إشعال الصراع حول الاستخدامات الحالية لمياه النهر “الزرقاء” في البلدان الأخرى، خاصة إذا كانت قطعة الكعكة الوحيدة التي أصبحت من نصيب جيرانها!
عندما تتحول وفرة المياه في المنبع إلى محاولة للهيمنة المائية
بالنظر إلى وفرة المياه في إثيوبيا، وموقعها الجغرافي مقابل 85 ٪ من موارد المياه المتجددة الوحيدة في مصر، وقرارها من جانب واحد بشأن بناء وملء خزان سد النهضة على أكبر روافد نهر النيل، ومحاولاتها المستمرة للمراوغة من أجل تعطيل دراسات تقييم أثر وتبني استراتيجية قائمة على عرقلة التوصل إلى اتفاق بشأن ملء خزان السد وقواعد التشغيل؛ كل هذا يشير إلى هدف مختلف لبناء السد؛ أي محاولة الهيمنة المائية فليس الأمر مجرد اهتمام بتوليد الطاقة الكهرومائية!
الكاتب هو المدير الإقليمي للموارد المائية بمركز البيئة والتنمية للمنطقة العربية وأوروبا CEDARE، والمدير الإقليمي للبرامج الفنية بالمجلس العربي للمياه، وأستاذ الموارد المائية.
ترجمة المقال نقلاً عن الأهرام ويكلي.