حاتم حافظ
بعد فترة كنت بصحبة أبي وعبرنا بميدان كان على ناصيته – وبجوار بيت خالي طَلعت – مكتبة صغيرة، استرعى انتباهي الكتب المصطفة في رفوف أمام المكتبة، كانت تحمل صحفا ومجلات، ومن بين المجلات كانت مجلة ميكي جيب. وقفت عندها لدرجة أن أبي كان قد ابتعد عني وحين انتبه عاد غاضبا فطلبت منه شراء المجلة فاشتراها لي. أظن أني كنت في الخامسة وقتها لأنه كان يحمل أشياء تخص الرضيعة التي سوف تصبح أختي.
بعد عودتي للبيت انزويت في ركن وقرأت المجلة في وقت قصير حتى أنني شعرت باليأس لعدم وجود مجلات مماثلة. من ميكي تعلمت أهمية وجود “الشخصية” في القصة. بعد انتهاء فترات القراءة الأولى تعلمت درسا مهما: الشخصية هي كل شيء في القصة، على عكس الشائع، وعلى عكس درس أرسطو الشهير، بدليل أنه من بين مئات القصص التي قرأتها في كتب الأطفال أو في مجلات ميكي لم تحتفظ ذاكرتي بغير شخصيات ميكي: ميكي وميمي وبطوط وعم دهب ودنقل. كم شخصا من قراء ميكي يمكنه تذكر قصة محددة؟ لكن كم شخصا بمقدوره نسيان كيف كان عم دهب مضحكا في محاولته اكتناز أموال لا لزوم لها؟ وكيف كان ميكي بريئا للغاية، وكيف كان بطوط خالا طيبا لثلاثة عفاريت صغار؟ أفكر الآن أني صرت مغرما بالشخصيات أكثر.
الآن – وقد صرت في منتصف الأربعينيات – وبعد ضعف ذاكرتي اكتشفت أني غالبا ما أحتفظ بشخصيات الكتب التي قرأتها حية في ذاكرتي فيما يتعثر عقلي في تذكر الأحداث. هاملت/شكسبير – راسكولنيكوف/الجريمة والعقاب – الخال فانيا/ تشيخوف – الأستاذ ك/كافكا – صالح هيصة/ خيري شلبي – عيسى الدباغ – كامل الرحيمي/ نجيب محفوظ – الكولونيل أورليانو/ ماركيز – بدرو أرامو/ خوان رولفو – دون كيخوتة/ سرفانتس – زوربا/ كازانزاكس – حتى الشخصيات التي لم أعد أذكر أسماءها مثل بطلة رواية جزيرة صغيرة/ أندريا ليفي أو بطل رواية الرجل البطيء/ كوتسي أو بطل رواية الغريب/ كامو أو بطل رواية العجوز الذي يقرأ الروايات البوليسية/ لويس سبولفيدا أو بطل رواية الإحساس بالنهاية/ جوليان بارنز! من بين آلاف القصص والروايات التي قرأتها في حياتي لا أذكر غير عدد قليل من الروايات، لكني أذكر مئات الشخصيات التي بتذكرها يمكنني أن أشعر بالتعاسة أو بالسعادة!
من بين كل شخصيات سلسلة ميكي استهوتني شخصية بطوط. الخال الطيب (العصبي في بعض الأحيان) الذي يقع في المشاكل دائما بسبب طيبته وبسبب شقاوة ثلاثة بطّات (الحقيقة طالما اعتبرتهم إناثا بسبب أسمائهم: سوسو وتوتو ولولو). عائلة البط في العموم استهوتني أكثر من ميكي ماوس (وإن كانت علاقته بميمي كانت جذابة جدا لي) شغلني في عالم البط العلاقات المتماثلة. بطوط هو ابن أخت العم دهب الذي يرفض مساعدته طوال الوقت فيما لا يدّخر بطوط جهدا لمساعدة أبناء أخته الذين تركتهم في عهدته وسافرت. بطوط ورث عن خاله بعض عصبيته لكن أنقذ العالم عدم وراثته بُخل خاله. نمتُ ليال كثيرة وأنا أفكر في تعاسة عم دهب ووحدته وأفكر في أن السعادة الحقيقية في شهامة بطوط لقبوله العناية بأبناء أخته رغم ضيق حاله. لا أعرف لماذا كان يستهوينا الفقر أكثر في كل القصص، أم لعلنا كنا نفتن بالاستقامة؟!
في طفولتي كنت أحب فيلما لشادية كانت فيه فقيرة وتسكن أرضا تجاور قصر أحد البشاوات (حسن فايق)، الباشا كان يعاني من آلام المعدة وكان ممنوعا عليه أكثر الأطعمة، وفيما كانت تطارده ابنته وزوجته لإجباره على تناول الدواء كانت عائلة شادية تغني لطبق الفول المحروم منه الباشا. الباشا كان يقف في نافذته شاعرا بالحسد تجاه آكلي الفول الذين يمتلكون معدات قادرة على هضم كل شيء. في تلك اللحظة كنت أختار أن أكون في معية هؤلاء على أن أكون محبوسا في القصر. بعد سنوات كثيرة وحين كنت أشتغل ناقدا على نصوص تشيخوف متأملا كيف يصنع مشاهده في الفضاء المفتوح والفضاء المغلق تذكرت الفيلم. كان القصر مزحوما بكل الرفاهيات والثراء غير المحدود لكن جدرانه كانت تعزل الباشا، كانت تجعله كسجين. فيما كان الفراغ الخالي خارج القصر المفتوح على سمائه يسمح لكل طوفان الغناء والحب بأن ينطلق. كان القصر فضاء للمعاناة فيما كان الفراغ ساحة للرقص. لهذا صاحبني حلم أن أعيش في بيت صغير بحديقة واسعة.
بعدها بسنوات قليلة – وبعد أن قرأت أغلب مجلات ميكي التي توفرت لي وبدأت في كتابة قصص مماثلة – كنت نائما عند ابن خالي إيهاب حين وجدته يوقظني في الفجر تقريبا.
– بتصحيني ليه؟
– عشان نعمل جرنال!
كنت في العاشرة مثلا وهو كان في الحادية عشر حين قرر إيقاظي لكي نصنع جريدة. في غرفة مجاورة كان خالي يحتفظ بكثير من ورق الرسم. لساعات ظل إيهاب يرسم الجريدة، بادئا بالطبع بالمساحة التي سوف يُكتب فيها اسم الجريدة، والأبواب، والأعمدة، وكل شيء، ولم ينس حتى مواضع الصور، وحين انتهى فجأة وجدته يزيح الأوراق ناحيتي.
– يالا اكتب الجرنال!
كان قد انتهى من دوره في الرسم وكان علي أن أكتب الجريدة – كلها – بأخبارها بتحقيقاتها بمقالاتها وأن أختار لها اسما!
كان ذلك هو عملي الصحفي الأول. أحببت الصحافة حبا لا وصف له فيما بعد. أبي كان يقرأ الجريدة كلها كل صباح وكنت أحب الوقوف جواره وهو يقرأ مخمنا ما يقرأه ولكي أسأله عما يغمض علي فهمه. بعد أن ارتفع سعر الجرائد في مصر اتفق أبي مع أحد الجيران على أن يتقاسما سعر الجريدة ويقرأ كل منهما في دوره، وبعد سنوات ارتفع سعرها مرة أخرى فقرر جارنا التوقف عن شرائها وقرائتها. أبي كان يقرأ الأهرام لكنه بداية من نهاية الثمانينيات تقريبا أضاف لقراءاته جريدة الوفد التي أخبرني مرة أنها تكتب الحقيقة التي لا تكتبها الأهرام. لم أكن أعرف الوفد فحكى لي أبي قصته. أبي كان ناصريا حتى النخاع – وما زال – لكنه كان يحتفظ بمشاعر إيجابية لحزب الوفد وللحركة الوطنية كلها.
في المدرسة الإعدادية تدربت على الصحافة وعلى التمثيل. في السنة الأولى من التحاقي بكلية التربية انضممت متدربا بمجلة “ورود” التي أصدرت عددا واحدا ثم أُغلقت بقرار رسمي. بعد أن قرأت لماركيز عملت بنصيحته “لو أردت أن تكون كاتبا فاشتغل بالصحافة”. حاولت العمل بالصحافة وعملت لفترة قصيرة للغاية قبل أن أجدني رئيسا لتحرير مجلة فنون. رغبت طوال حياتي في العمل بالصحافة لأنها أقرب مهنة لمهنة الكتابة. كان لدي حلم أن يكون لي مكتب في مؤسسة قومية كالأهرام، يمكنني الكتابة فيه دون أن أُلزم بعمل أي شيء بخلاف الكتابة.
في رأي أفلاطون (أو لعله أرسطو لا أذكر ) أن الشخص لا يسعه أن يفعل أكثر من شيء ويجيد فيها كلها، لأنه – على حد قوله – إن أراد أن يفعل ذلك فلن يترك بَصْمَته في أي منها. بالنسبة لشخص مثلي يكتب القصة والمسرح والسيناريو ويكتب في الأفكار أحيانا أخرى فإن هذا الرأي لا مثيل له في الإيلام. صديقي محمد الخطيب كثيرا ما نصحني بالتركيز على كتابة المسرح (بعد أن استسلم لعدم رغبتي في التفرغ للنقد) وظل رأيه مدعوما طوال الوقت بالنتائج التي تحققت جرّاء كتابتي للمسرح. بسبب تعدد الفضاءات التي أتحرك بها صرت غائبا. كما لو أن الناس قد اعتادوا غيابي في كل مكان! وأشعر طوال الوقت بأني ما زلت كالخال بطوط عليّ الاعتناء ببنات أخت شياطين في وقت واحد دون أن يفقد أيا منهن وإن فقد نفسه!