سيرة القراءة 4
حاتم حافظ
كان أبي يحتفظ بكتبه في ضلف مغلقة حماية لها من طفل شقي مثلي، وحين لمس فيّ اهتماما بالقراءة في وقت مبكر اصطحبني لمعرض الكتاب لشراء كتاب. في صالة كبيرة من صالات المعرض ربّت أبي على كتفي وقال لي “اختر لك كتابًا”.
لساعة كاملة ظللت ألف وأدور في المكان.. آلاف الكتب التي لا أعرف معنى كثير من عناوينها.. آلاف الكتب لكُتّاب لم أسمع بهم من قبل.. كتب لها أغلفة زاهية الألوان وأخرى قديمة باهتة ألوانها.. كتب ذات قَطع صغير وأخرى ذات قَطع متوسط وأخرى ذات قَطع كبير.. كتبٌ عليها صور مؤلفيها وأخرى أسماء أصحابها غير مدونة عليها أصلا.. روايات وقصص خيالية وحكايات أسطورية وسيَر شعبية ومؤلفات في الفلسفة وفي الفكر وفي التاريخ وفي علم النفس وفي كل شيء وكنت كلما رفعت عيني لأبي ملتمسًا العون أشار لي إشارة أفهم منها أنه لا يريد أن يختار لي وأنه يصر على أن يكون كتابي الأول من اختياري الحر. في النهاية – وبلا سبب معلوم – سحبت كتابًا كان على غلافه اسم كاتبه “عبد الحميد جودة السحار” وعنوانه “عمر بن عبد العزيز”. لا أذكر إن كان اختياري سببه معرفتي باسم السحار أو سببه معرفتي باسم الخليفة الراشدي. أغلب الظن أني سمعت اسم الخليفة في خُطب الجمعة أكثر من مرة ولهذا اخترت الكتاب الذي أقام – بالمصادفة – ألفة معي.
وقت اشتريت الكتاب كنت فيما أظن ما بين العاشرة والثانية عشر، لأن قراءتي الحقيقية سوف تبدأ في سن الثالثة عشر أو الرابعة عشر. أظن حين اشتريت الكتاب كنت أحسبه مجرد سيرة ذاتية مما نقرأ بعضها في دروس المدرسة. اشتريته ككتاب تاريخ في الغالب لكن من حسن الحظ أنه لم يكن كذلك. تنبهت مبكرا لفكرة كتابة التاريخ في شكل أدبي. التاريخ كرواية، ومن ثم الواقع أيضا كرواية. لكني الحقيقة لم أحب الكتاب، حتى أظن أني لم أكمل قراءته، رغم أني أحببت الخليفة.
في تلك الأوقات كنا – أولاد خالي – إيهاب وداليا – وأنا – قد بدأنا قراءة روايات الجيب التي كتبها الأستاذ نبيل فاروق. سلسلة رجل المستحيل كانت طريفة وغذت خيالنا لدرجة أننا بدأنا في تقمص شخصية أدهم صبري. كنا نشتري أعداد السلسلة بالتناوب لنتمكن من قراءتها كلها. كنا ننظم جلسات قراءة في بيت خالتي نادية. نجلس نحن الثلاثة كل في ركن ممسكين بواحدة من الروايات ولا نغادر أماكننا إلا حين يفرغ كل منا من روايته. في مرة من المرات سُرقت بعض ألعابنا من أمام بيت خالتي فشكّلنا فريقا مستفيدين من كل الخبرة التي اكتسبناها من عوالم نبيل فاروق. لم ينته اليوم إلا وقد اكتشفنا السارق بل وأجبرناه أيضا على الاعتراف. كان ولدا من أسرة فقيرة يسكن قريبا من بيت خالتي ورغم زهونا بالعودة حاملين ألعابنا المسروقة أصرّت خالتي على العودة مرة أخرى إلى بيته وإهدائه بعضًا من ألعابنا!
بالمقارنة مع روايات نبيل فاروق كانت رواية السحار سخيفة بالنسبة لطفل في سني. شخصية البطل كانت مصنوعة للغاية ومختلقة جدا. بدت عادلة أكثر مما ينبغي لإنسان وعظيمة أكثر مما ينبغي لبشري. ومع هذا صدقتها. في ذلك الوقت كنت – كباقي أقراني – عرضة لتصديق كل ما يتم بثه. كل كلمة سمعناها من والدينا – أو من في مثل عمرهم – ومن شيخ الجامع ومن مدرسي المدرسة ومن نشرة الأخبار كانت حقيقية بالنسبة لنا. في طفولتنا اعتقدنا أن الكبار لا يكذبون وأنهم بالتأكيد ليسوا عرضة للتضليل من قِبل الآخرين وأن المعرفة اكتملت قبل أن نولد وليس علينا إلا أن نتلقيها كما هي من كل صاحب صوت. ومع هذا ورغم أني صدقت قصة الخليفة فإن المقارنة بين روايات نبيل فاروق ورواية السحار لم تكن في صالحه بالتأكيد!
لكني – بسبب شعوري بأني في حاجة لخيال له طابع آخر – مللت سريعا من كتب الجيب. كنت أقرأ مع أبناء خالي كتب الجاسوسية ومع خالتي الصغرى “سهر” كتب أخرى ضمن سلسلة كانت تُسمى “روايات عبير”. روايات رومانسية وميلودرامية في كثير من الأحيان. أغلب أغلفتها إما كانت تحتفظ بصورة امرأة أو بصورة امرأة مع رجل. وأغلب العناوين كانت مبالغة في الرومانسية ومفرطة في الحسية مثل “رجل بلا قلب” “نداء الندم” “عذراء في المدينة”. في البداية تجاهلت رغبتي في قراءة تلك الروايات ظنا مني أنها روايات مخصصة للبنات. لكني وجدتها صالحة للقراءة حين التقطتُ واحدة منها وقرأتها.
المقارنة مع الروايات البوليسية أو مع رواية السحار تجعلني أقول إن روايات عبير العاطفية والمترجمة كانت أكثر إمتاعا من ناحية ومن ناحية أخرى كانت عاملا من عوامل النضج المبكر. ملاحظة تعقيدات العلاقات البشرية مبكرا فتحت لي بابًا لفهم البشر أو على الأقل لفهم نفسي. لكن أظن أن حبكة الرواية ترسخت داخلي بفضل الروايات البوليسية. وحين كبرت عرفت أن الحبكة الروائية يمكن تعلمها من روايات أجاثا كريستي أكثر مما يمكن تعلمها من شكسبير مثلا. لدرجة أن ماركيز ذكر أنه تعلم الحبكة من مسرحية أوديب لسفوكليس لمجرد أن الأخيرة ذات حبكة بوليسية! أحببت الحبكة البوليسية والحس المشوق الذي يمسك بالأنفاس. تمنيت كتابة عمل بوليسي وأعتقد أن مشاركتي بكتابة خمس قصص في مسلسل “استيفا” أشبع جزء من هذا الشغف.
بعد أن كبرت قرأت مقدمة دورنمات لروايته “العهد”. فيها كان يشتكي من تراجع الأدب بسبب انتشار التليفزيون والسينما. وكان رأيه أن الأدب يجب أن يستلهم الكتابة البوليسية وتقنياتها في الحبكة للحفاظ على القراء. الحقيقة أن شغفي بفن السينما كان الأثر الأكبر في ارتباطي بالحبكة البوليسية أو بمعنى آخر بفكرة الحبكة المبنية على لغز. كل دراما – كما كل أدب عظيم – تبدأ من سؤال، أو من موقف متوتر. روايتي الأولى “لأن الأشياء تحدث” تبدأ من لحظة طلاق. انفصال جُر إليه البطل دون أن يفهم أسبابه. حين وجد نفسه وحيدا في البيت كان عليه أن يبدأ رحلة الفهم. كانت رواية بوليسية على نحو ما.
المفارقة أني لم أقرأ رواية واحدة لأجاثا كريستي حتى وصلت سن الأربعين! في شهر واحد قرأت عشر روايات تقريبا وشغفت بها وبدأت في مشاهدة الأفلام التي صُنعت على شرف رواياتها. لفترة داهمتني أفكار كثيرة كلها لها نفس الطابع. “الآنسة مي”، “جريمة في الشيخ زايد”، “الأشباح”، وغيرها من مشاريع درامية ظلت مؤجلة. الغريب أني كتبت الروايتين التاليتين دون هذا التأثير. لكن هذا لا يعني إلا أن حلم كتابة رواية ذات حبكة بوليسية سوف يؤجّل إلى حين.