صلاح فضل
هذه رواية فارقة للمبدعة الأكاديمية ريم بسيوني، التي اكتشفت موهبتها منذ عقدين من الزمان، حيث كانت تعمل في إحدى الجامعات الأمريكية أستاذة لعلوم اللغة، وجاءت مع زوجها الدكتور مارك لتجرب حظها في نشر أولى رواياتها فاحتفيت نقديا بإبداعها، وظلت تواصل إنتاجها وتظفر ببعض الجوائز حتى تفرغت بعد انتقالها للقاهرة لمشروع طموح يتناول بالتحليل السردي المعمق نسيج الشخصية المصرية ومكوناتها في العصر الوسيط، ونشرت روايتها الضخمة “أولاد الناس: ثلاثية المماليك”، وهي تتألف من ثلاث حكايات متتابعة تشربت فيها بإمعان وشغف عددا كبيرا من المدونات التاريخية للمقريزى وابن إياس وابن خلدون وغيرهم، وأخذت ترصد عجينة السكان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي وآلية السلطة ومقومات التاريخ قبيل الغزو العثماني.
يبدأ الجزء الأول عام 1309م بعنوان يمتد للرواية كلها وهو “أولاد الناس” ثم يبدأ الجزء الثاني عام 1388م بعنوان آخر هو “قاضي قوص” ليتضمن الحكاية الثانية، ويبدأ الجزء الثالث عام 1517م أي عند الفتح العثماني لمصر، ويشمل الحكاية الأخيرة من الثلاثية المتميزة.
واللافت أن الكاتبة لم تقع في أسر لغة المدونات مع أنها أستاذة اللغويات، وإنما ركزت بؤرة سردها في طبيعة العلاقة المتوترة دائما بين الأطراف الفاعلة في الكتلة السكانية المتحركة، ابتداءً من المماليك الذين وسموا هذا العصر ورسموا ملامحه، وكان السلاطين غالبا منهم وتحت رحمتهم، وعلماء الدين والفقهاء والقضاة الذين يفصلون في المنازعات ويتوسطون بين الشعب والحكام فيمنحونهم الشرعية مقابل الطاعة، أما السواد الأعظم فيطلق عليهم العوام والجمهور، لكن الكاتبة تكتشف أن هناك حبلا سريا يجعل العلاقة عضوية بين المماليك وغيرهم يتمثل في ذريتهم الذين يسمون “أولاد الناس” وهم يختلفون كثيرا عنهم، فالآباء “عسكر قلاعهم عامرة بالأسلحة، يأتون بهم خطفا كل عام من بلاد الأتراك وما بعدها ويدربونهم على الحرب ويعلمونهم أن القتل واجب، وأن الدفاع عن الدين وديار المسلمين فرض، وهم يأكلون أفضل أنواع الفاكهة ويرتدون الحرير والذهب ويتفقدون حواري القاهرة على خيولهم، وقيل إنهم منعوا بيع الأوز والدجاج فى أسواق العامة وتركوا لهم اللحم الرخيص والخضروات”، أما لقب أولاد الناس فكان مقصورا على أولاد المماليك دون غيرهم من العوام، فأولاد الناس ولدوا في مصر بخلاف آبائهم الذين يأتون دائما من بلاد بعيدة، يخطفهم الجنود من بلاد غير مسلمة ويتم تدريبهم على القتال والذبح منذ الصغر، وولاؤهم للأستاذ الذى دربهم فقط، ليس لهم عائلات ولا أموال يرثونها من أهلهم، يكونون ثرواتهم بعد انضمامهم للجيوش في خشداشية الأستاذ التي يدرسون فيها الدين والفقه مع فنون القتال والحرب، وغالبا يتزاوجون فيما بينهم أو يتخذون الجواري والإماء، أما أولادهم فيذوبون فى غمار الناس ويصبحون مصريين. ومن المماليك من يصبح أميرا أو يغتصب الملك ويصبح سلطاناً أما البقية فيظلون جنوداً محاربين.
وتبدأ الحكاية الأولى في الرواية على لسان زينب، وهي ابنة أحد كبار التجار فى القاهرة، حيث تشهد اعتداء جنود المماليك على أخيها وابن عمها في دكانهم، تتصدى بقوة لأمير الجند دفاعا عن أهلها، كانت تتمتع بشخصية قوية وقدرة على النقاش والحجاج، فقد تعلمت الفقه والدين والحساب والمنطق على غير المألوف، فيقول لها الأمير: “عندما يعتدى العامة على الجنود ماذا يحدث للبلاد؟ يعم الخراب ويعبث الفاسدون فى البلاد بلا رادع، أنا صبور معك لأنك شجاعة، التقت أعينهما ففتحت فمها لتنطق ولكن عينيه أخافتاها، وشعرت أنه قد يقطع لسانها لو نطقت بكلمة، طأطأت رأسها وقالت: أشكرك وأدعو لك مولاى، فالعدل من سماتك” كان هذا سببا في إعجابه بها، وتقدمه لخطبتها بعد أن سجن خطيبها وأخاها على عكس عادة أمراء المماليك.
وهنا تنجح الكاتبة في تشكيل نموذج نسائي فذ فى ثقافته وعناده، حتى إنها تسند إليها مواقف يصعب تصورها في هذه الفترة، فالأب لا يمكنه أن يرد طلب الأمير الذي يتم رغما عنه، وهي تقاوم الاستسلام له بعد الزفاف بطريقة غريبة: “دفع بها إلى السرير فأغمضت عينيها وتجمد جسدها وكأنه انفصل عن روحها انفصالا تاما، وأصبح جثة لا تشعر ولا تعترض، وبدا لها أنها لو استمرت فى فصل الروح عن الجسد وشغلت ذاكرتها بأمور أخرى لاستطاعت التحمل بعض الوقت إلى أن يقدم والدها شكوى إلى السلطان ويتم طلاقها من زواج الإكراه، على أن فقدان العذرية لم تكن آلامه مبرحة كما تصورت، فهى لم تصرخ ولم تطلب العفو، هذه إذن هي حياة البغاء، هكذا لا تشعر بائعة الهوى بشىء داخل النفس أو الجسد»، وأحسب أن وصف هذه التجربة الغريبة يقدم لنا نموذجاً مدهشاً لامرأة تسبق عصرها، فهى لا تلبث بعد طول معاناة أن تعشق زوجها الأمير بعنف كما كانت قد كرهته بشدة، بل تفرض عليه بالذكاء والدهاء وقوة العاطفة أن يستغنى عن جواريه المفضلات، وتنتصر على عادات العصر فتجعله يكتفى بها ولا يشرك معها أى امرأة أخرى، وكأنها تغير منطق العصور الوسطى وتقاليدها وتفرض عليها ما تدعو إليه الاتجاهات النسوية الحديثة، والطريف أننا نشهد فى الحكاية الثالثة من الرواية تكرار التجربة ذاتها مع هند والأمير المملوكى «سلار» فهو يغتصبها كارهة فى البداية، ثم لا يلبث الشوق أن يستبد بها وتتوق إلى نظرة منه عندما ينكسر أمام العثمانيين ويهرب منها، وكأن هذا التناقض بين الكره الذى ينقلب عشقاً يمثل خاصية أنثوية فى تكوين المرأة.
إلى جانب ما تنجح الكاتبة فى تصويره من مشاعر المرأة التى تتمزق وتحترق من الغيرة كلما تمثلت رجلها وهو يسوى بها غيرها من النساء حتى لتفضل الموت على مثل هذا المصير، وهذه المشاعر الطبيعية لم تكن بمثل هذه القوة فى المجتمعات القديمة، لكن شخصيات ريم استثنائية، فزينب تنجح أيضاً فى التمكن من زوجها الأمير حتى يأخذ برأيها ويرفض منصب نائب السلطان الذى يطمح إليه كل رفاقه. على أن البؤرة الجامعة لدلالة الجزء الأول من الثلاثية والممتدة إلى آخر الأجزاء هى امتلاك ابنها- وهو من أبناء الناس- موهبة الرسم وبراعة العمارة، وقيامه بتصميم مسجد السلطان حسن، الذى يعد درة مساجد القاهرة الفريدة، فهو كما يشرح: «يفوق فى مساحته كل المساجد ويخلد ذكرى المماليك إلى أبد الدهر، فطوله أكثر من مائتين وسبع وسبعين ذراعاً، وله أربع مآذن، وتطول القبة كل القلاع وتفوق كل القبب، وبه أربع مدارس للمذاهب الأربعة.. هذا الصرح ليس للصلاة فقط، بل للعلم، صرح للحياة وليس ضريح موت، يتسع لأكثر من خمسمائة طالب، ومدرس وطبيب ومراقب وعالم، يدفع لهم السلطان الحسن ثمن الكسوة والطعام أيضاً».
ومع أن الحظ العاثر يجعل إحدى المآذن تقع على المصلين فيموت منهم ثلاثمائة، ثم يقتل السلطان الذى بناه ويتحول إلى خرائب يتخذها المماليك حصونا لقتال بعضهم البعض فيما بعد، غير أن ما تركز عليه الكاتبة هو أن «مشيد العمائر» الذى بناه ظل اسمه مجهولاً حتى اكتشفه مرقوماً فى إحدى الزاويا فى أربعينيات القرن العشرين الأثرى الكبير الدكتور حسن عبدالوهاب، وكان من أولاد الناس وهو «محمد بن بيليك المحسنى» ابن زينب والأمير المملوكى، وكان من المفارقات أن السلطان لم يدفن فى المسجد كما تمنى. ولأن الرواية تستغرق مئات الصفحات فليس بوسعنا أن نتتبع تفاصيلها، بل نكتفى بخطوطها ودلالتها المحورية، حيث نجد التركيز فى الجزء الثانى على الشيوخ وعلماء الدين الممثلين للسلطة الثانية وعنوانه «قاضى قوص» وتختار له الكاتبة شيخا ذكيا طموحاً من سلالة أحد العلماء الذين ذكرتهم فى الجزء الأول، لكنه يهفو إلى ممارسة السياسة حتى يصبح قاضى القضاة، وتقع له أحداث مروعة ومتراوحة، إذ يصر على تنفيذ حكم القصاص برجم ابن الوالى المملوكى للإقليم جزاء موت الصبى الفقير الذى انتهك عرضه ثم قتله، فتأتى أم الصبى- وهى بائعة الملح- وتقول للقاضى: «لو قتله متعمداً لكنت قبلت الفدية، ولكنه أذله وأذلنا، وفاحشته تستحق الرجم على كل حال، ولكن يا مولاى يا مولاى القاضى.. لو مثلاً – واعذرنى لو كانت كلماتى قاسية- لو فقأ أحد عينيك وخرم أذنيك ثم قطع كل أطرافك وأعطاك خمسمائة ألف دينار وطلب منك أن تستمتع بها هل ستستطيع؟» وهنا نتذكر أبيات الشاعر أمل دنقل الشهيرة فى قصيدة «لا تصالح» التى استفادت بها الكاتبة لاستشارة القاضى وحثه على رجم المعتدى، وعندما يهم بذلك يقتحم الوالى مجلسه ويعزله ويحبسه حتى يبت السلطان فى أمره، وكانت هناك قضية أخرى شائكة حكم فيها بجرأة أيضاً حيث رفعت فتاة جريئة تسمى «ضيفة» دعوى على أبيها لأنه زوّجها عنوة من شخص تكرهه، ففسخ القاضى العقد، ثم لم يلبث أن وقع فى هواها عندما التقت عيناهما وبدا كأنها سحرت له بمساعدة صديقتين تمارسان هذه الأعمال، ومع أن مدار هذه الحكاية الثانية هو الصراع بين سلطة العسكر المماليك وشيوخ القضاء فإن السلطان ينصف القاضى ويعيده لينفذ حكم الرجم فى الصبى، ويكون ذلك سبباً فى ثورة المماليك عليه وخلعه وهروبه إلى الشام- وهو السلطان برقوق- وهروب القاضى معه، وتنهمر الأحداث لهما معاً حيث يعود السلطان لعرش مصر، ويستدعى القاضى الذى لا يعرف هل نجا بفعل السحر أم بتدبير الحكام ويعيّنه قاضياً للقضاة، وتمزج الكاتبة هنا بين الحقائق والأوهام، بين السحر والتدبير من ناحية والوقائع والأساطير من أخرى.
ويأتى الجزء الثالث من حكايات المماليك بنهج سردى جديد، إذ يعتمد على شهادات ثلاث شخصيات تمثل أطراف الصراع الذى اشتغل فى مطلع القرن عند غزو العثمانيين لمصر، أولهما هند الفتاة المصرية التى يكاد يبطش بها الغزاة فيفتديها منهم رجل يتخفى فى ثياب الفلاحين ويسوقها إلى مزرعته فى بلبيس ويعاملها كالجوارى على الرغم من مقاومتها الشديدة له، ولكن عشقه ينبت وئيداً فى قلبها حتى تكتشف فى نهاية الأمر أنه ليس سوى الأمير «سلار» الذى يقود مع رفيقين له حشود المصريين لمناصرة الوالى وصد الغزو ضد القاهرة، ثم لا يلبث «سلار» نفسه أن يقدم شهادته فى فقرات تالية، وكذلك يبرز ممثل السلطة العثمانية الجديدة وهو الترجمان مصطفى باشا العثمانى، لتتعادل الرؤية من جوانب مختلفة ويكون من أبرز ما يقدمه الترجمان افتنان سليم باشا بمسجد السلطان حسن، الذى يزوره معه، ويرى عينيه «تطرفان فى أركانه وتتوهان فى رسوماته وزخرفته، وعندما يصعد إلى إحدى مآذنه يقول: (من هذه المئذنة تشعر أنك تملك العالم) ويتمنى أن يقيم مسجداً مثله بقناديله ورخامه ورسومه النحاسية ومشكاواته، فيأمر لا بحمل هذه الأشياء فقط إلى بلده بل بحمل رؤساء المهن والحرف الفنية المصريين وحشدهم فى السفن إلى تركيا دون أسرهم»، وهنا يتجلى لنا لأول مرة فى الرواية وبفضل هذه الإشارة أن عينة الشعب المصرى لم تكن تقتصر على المماليك وأولاد الناس وعلماء الدين والعوام، بل إن قوامها هم صناع الحضارة فيها من مهندسين وفنيين فى كل المهن والحرف والصناعات إلى جانب التجار والمحاربين، ولم تكن الكاتبة قد وضعتهم فى اعتبارها وهى توزع أدوار البطولة والفاعلية بين ممثلى القوى الاجتماعية البعيدين عن السياسة بينما يشكلون القوام الثقافى المدنى للشعب ومنجزاته التى قد ينفق عليها السلاطين والأمراء من مساجد ومدارس وأسبلة ومنشآت أخرى ولكنهم هم صانعوها.
يصف الترجمان المعارك الضارية التى جرت فى حوارى القاهرة وكيف يُظهر العوام مهاراتهم القتالية إذا أُحسن تنظيمهم وتدريبهم، وكيف انتقم منهم السلطان سليم فى الموقعة الحاسمة وأمر غدراً بكل من سلّم نفسه من المماليك، وكانوا ثمانمائة أمر بذبحهم فى سجنهم ثم تعليق رؤوسهم فى حبل يمتد من الروضة إلى باب النصر، وأعقب ذلك صلب طومان باى على باب زويلة، تنهش الطيور لحمه عدة أيام، ويتمكن العثمانيون من القضاء على المماليك الذين كانوا يعتزون بمصريتهم المكتسبة ويخلصون فى الحرب دفاعاً عن الديار والديانة. وتلعب الخيانة دورها أيضاً فى هذه المفاصل التاريخية الكبرى، ولا تجد هند ما تستشهد به على تداول السلطة سوى أبيات الشافعى الأثيرة لدى الكاتبة فتتمثل بقوله:
“دعم الأيام تفعل ما تشاء/ وطب نفساً إذا حكم القضاء ولا تجزع لحادثة الليالى/ فما لحوادث الدنيا بقاء”
وتظل هذه الرواية الضخمة أحد الأعمال الكبرى التى تؤرخ بإبداع وعمق وشمول للمماليك فى مصر، ولهذا استحقت بجدارة جائزة المجلس الأعلى للثقافة باسم نجيب محفوظ هذا العام، وأصبح المثقفون مدعوين لتأملها مليا.
نقلا عن المصري اليوم