رباب طلعت
ترندات متعاقبة لا يستمر أحدها أسبوع على الأكثر، بالرغم من قوة تداوله والتفاعل معه من قِبل مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، بعبارات حماسية مثل “الأخذ بالثأر من القاتل”، “الإعدام للمغتصب”، “الحرية للمثلية الجنسية” وغيرها من القضايا الشائكة التي لم تأخذ مساحتها في المناقشة من قبل مثلما يحدث الآن، من خلال السوشيال ميديا، التي أتاحت للكثيرين التعبير عن آرائهم بحرية ما بين مؤيد ومعارض لقضية ما، ولكن ما تأثير تلك المناقشات على المجتمع؟
جاء في تقرير مؤسسة we are social لأبحاث الإنترنت، فبراير الماضي، أن عدد مستخدمي الإنترنت في مصر يصل إلى 54.7 مليون مستخدم، ويقدر عدد مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي النشطين إلى 42 مليون مستخدم، أي ما يقارب نصف سكان مصر، يتفاعلون عبر السوشيال ميديا، ويتعرضون لتأثير الترندات، الأمر الذي يطرح العديد من الأسئلة حول التأثير النفسي والاجتماعي والقانوني لهذه الترندات، وهو ما نحاول رصده فيما يلي:
صناعة الترند والسيطرة على عقول الجماهير
بات من المعروف لدى الكثيرين أن صناعة الترندات لا تأتي هباءً، فبعضها إن لم يكن معظمها ليس مجرد صدفة، أو تضامنًا حقيقيًا مع قضية ما، إنما هو توجيه من قبل جهة ما تحاول حشد الجماهير حول “هاشتاج” معين، يحمل وراءه غاية ما، فكيف يحدث ذلك؟
يجيب عن السؤال الدكتور محمد الجندي، خبير أمن المعلومات بالأمم المتحدة، أن السوشيال ميديا تشهد الكثير من الترندات المزيفة، وهي إحدى أدوات الصراعات الهجينة أو ما يطلق عليها “حروب الجيل الخامس”، وتلك التي شرحها في كلمته أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي، في ندوة القوات المسلحة أكتوبر الماضي من قبل، حيث قال إنه مع تطور التكنولوجيا حاليًا، ظهر ذلك المصطلح، وتعني استغلال نقاط الضعف التي تهدد المرتكزات الأساسية للدولة لإحداث تأثيرات عميقة من النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
أضاف، أن هناك سؤالًا هامًا يطرح نفسه وهو ما ذكره إدوارد بيرنيز الأب الروحي للبروباجندا والعلاقات العامة وهو: “ماذا سيحدث إذا استطعنا فهم آلية عمل عقول الجماهير.. هل من الممكن السيطرة عليهم وفقًا لإرادتنا ودون علمهم بذلك؟” مشيرًا إلى أن التكنولوجيا باتت تفهمنا أكثر ما نفهم أنفسنا، وصارت تقودنا أكثر مما نعلم أو يعلم مخترعوها”، مؤكدا أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تقرأ أفكارنا، وهو ما يظهر في إعلانات “الفيس بوك” مثلًا، حيث يتحدث المستخدم مع صديقه على منتج ما فيجده أمامه على “الفيس بوك” ومثلها فيديوهات “اليوتيوب” المقترحة.
أكد أيضًا أن مواقع التواصل الاجتماعي تم تطويرها في البروباجاندا ونشر الأخبار المفبركة حيث إنه تم تطوير أدوات لعمل حسابات وهمية، يمكنها التفاعل مع المستخدم والتعليق على المنشورات ونشر وتفعيل الهاشتاجات الموجهة، التي يتفاعل معها بعد ذلك المستخدمون.
وهذا ما يفسر تحديدًا اعتلاء بعض “الهاشتاجات” قائمة الترند خلال ساعات قليلة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لتتحول لقضية عامة يتحدث عنها مستخدمو السوشيال ميديا، ويصل بعضها إلى تحركات رسمية من قبل الجهات المعنية للسيطرة عليها، كيفما حدث كأقرب مثال مع المتهم بقضايا التحرش والاغتصاب للفتيات أحمد بسام زكي، وافتضاح أمره في يومين، بالرغم من مرور سنوات على العديد من حوادث التحرش التي ارتكبها، لتتحرك النيابة العامة بإصدار أمر ضبط وإحضار له، ومن ثم التحقيق معه، ومن جهة أخرى عملت دار الإفتاء المصرية على توضيح حكم الشرع من المتحرش، وغيرها من التحركات الرسمية التي جاءت بناء على التفاف رواد مواقع التواصل الاجتماعي حول قضية ما، ومن ثم اتخاذ إجراءات قانونية رسمية.
قضية المتحرش ليست الوحيدة خلال الفترة الماضية، بل ظهر “ترند” آخر، بعد انتحار سارة حجازي الناشطة السياسية صاحبة واقعة رفع علم المثليين في إحدى الحفلات بالقاهرة، وتداول بوستات لأصدقائها عن انتحارها بسبب رفض المجتمع المصري لها وما تعرضت له بسبب فعلتها ما دفعها للانتحار بعد إصابتها باكتئاب شديد، لتظهر الكثير من الحسابات بعلم “الرينبو” على صور أصحابها، بالإضافة لجانب آخر معترض بشدة ورافض للاعتراف بالمثلية الجنسية.
ترندات أخرى، مماثلة عن جرائم غريبة، أبرزها إلقاء زوج زوجته من الدور الخامس بسبب إصابتها بكورونا، وهو ما نفته الزوجة بعدها، وقالت إنه بسبب شجار بينهما، لتتوقف موجة “هي الناس اتجننت بسبب كورونا”، إلى “هي الرجالة حصلها إيه”، في تعليقات منظمة وكأنها مستنسخة، من حسابات ليست بالضرورة موجهة توجيهًا سياسيًا إنما أيضًا نفسيًا.
تأثير لحظي واندفاع وراء الترند
حتى وإن كانت أغلب الترندات مصدرها جهات ما تحاول السيطرة على العقل الجمعي، فإن التفاعل معها ليس بالضرورة لخدمة توجه ما، فكثيرًا من المنساقين ورائها يأتون بسبب دوافع نفسية، وهو ما يشرحه الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، قائلًا: إن ترندات السوشيال ميديا انفعالية لحظية اندفاعية، يظهر أحدهم لعدة أيام ويختفي ويظهر آخر وهكذا، مضيفًا أن طبيعة عمله علمته أنه للوصول لحقيقة الأمور يجب الاستماع لكافة الأطراف، وهو ما لا يحدث على السوشيال ميديا أبدًا، فردود الأفعال اللحظية تأتي كرد فعل انفعالي على واقعة ما، كما حدث من تضامن ودفاع عن المثلية بعد واقعة انتحار الناشطة السياسية سارة حجازي مضيفًا: “لو واحدة مثلية انتحرت هيتعاطفوا مع المثليين، لو واحد ملحد انتحر هيتعاطفوا معاه، لو كذا واحد انتحروا ورا بعض يبقى المنتحر كافر وهيدخل النار، وهكذا”، معلقًا أن الحكم على القضايا لا يصلح بهذا الشكل، لافتًا إلى أن أغلب مستخدمي السوشيال ميديا سمتهم الاعتراض على كل شيء.
أردف أن ذلك يؤثر بالسلب على نفسية الشباب بشكل أساسي، فأغلب تلك الترندات تضغط الشباب نفسيًا أكثر من غيرهم، والعصبيين أكثر من الهادئين، والذكور أكثر من الفتيات، والاندفاعيين أكثر من غيرهم من الناضجين، كما أن تجارب الحياة تختلف من استقلال كل فرد عن غيره لمختلف الترندات.
أكد أن شدة التأثير النفسي لذلك النوع من الترندات لا يدركه مستخدمو السوشيال ميديا، فالأطباء النفسيين يشاهدون أثره السلبي على المرضى في عياداتهم وبشكل كبير، على سبيل المثال كثيرًا من حالات الإلحاد أو المثلية وغيرها كان السبب فيها أنهم قرأوا عنها على مواقع التواصل الاجتماعي ثم تعمقوا فيها فألحد من ألحد وشذ من شد، بالإضافة إلى مرضى الاكتئاب ومحاولات الانتحار بسبب ما يتم ترويجه على السوشيال ميديا.
أشار إلى أن ليس كل مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي يتأثرون بالترندات، ولكن وحتى إن كان 1% فقط يتأثر، فذلك يعني خسارة 1% من المواطنين، وهو أمر سلبي، مؤكدًا أن تنمية الثقافة بالقراءة والإطلاع هي أبرز الطرق للوقاية من الانسياق وراء تأثير السوشيال ميديا ومعرفة أن أغلب تلك الترندات ما هي إلا حروب جيل خامس، يستخدمها البعض لتهييج الرأي العام، أو إثارة حالة من النقم على كل شيء.
وعن تجاربه الشخصية مع حالات بسبب السوشيال ميديا، قال إن آخرها كان لفتاة لم تكمل عامها الرابع عشر كانت مصابة باكتئاب ورعب من مواقع التواصل الاجتماعي، بأنه أحدهم سينجح في اختراق هاتفها المحمول ويأخذ صورها وبياناتها وينشرها على مواقع إباحية، لدرجة أنها ظلت أربعة أيام متواصلة بحسب وصف والدتها دون نوم أو أكل وبكاء متواصل بسبب ذلك الخوف، مضيفًا أن هناك أطفال لديهم اضطرابات في النوم بسبب متابعة مثل تلك القضايا، بالإضافة إلى حالات الطلاق والخيانة الزوجية والجريمة وغيرها، مؤكدًا أن السوشيال ميديا لا تثير أبدًا قضايا إيجابية بل كلها سلبيات تؤدي لأمراض نفسية، وتركيز على الجريمة بشكل أساسي.
الترندات VS الأعراف المجتمعية
أما عن التأثير المجتمعي لتلك الترندات قالت الدكتورة سامية الساعاتي، أستاذة علم الاجتماع، إنه يجب عمل دراسات دقيقة مبنية على أسس علمية تبحث عن إجابة “هل يمتد تأثير ترندات السوشيال ميديا لتُغير تفكير المجتمع أم لا؟”، فذلك ضروري في معرفة تأثير تلك القضايا وإثارتها على مواقع التواصل الاجتماعي على المجتمع الحقيقي.
وإجابة عن “هل من الممكن أن يؤدي انسياق الشباب وراء تأييد بعض الأفكار الغريبة عن المجتمع والمثارة في الترندات مثل المثلية الجنسية؟” لفتت “الساعاتي” إلى أن مصر تخطى تعدادها السكاني المئة مليون مواطن، مقابل الفئة التي تستخدم السوشيال ميديا، حتى وإن وصل عددهم لملايين المستخدمين، وإلى آلاف يؤيدون أفكار مثل المثلية الجنسية أو غيرها من الأمور غير المقبولة مجتمعيًا، فإنه ليس لديهم مثل تلك القوة التأثيرية على المجتمع، معلقة: “عشان منخضش الناس اللي عندها أولاد مش معنى أن فئة بتطالب بده مش هنقدر نطلع بعد كده ولاد كويسين”، مؤكدة أن الثقافة المصرية راسخة جدًا، حيث تعتمد على العادات والتقاليد وتعاليم الدين وكلها تستنكر ذلك، ومن يخرج عنها يعاقبه المجتمع بجزاءات معنوية، فيحتقره ويسخر منه، وتلك هي العقوبات المجتمعية، لذلك لا مجال لتعميمها في الواقع.
أكدت أستاذة علم النفس، أن إثارة مثل تلك القضايا لا يعد ظاهرة حقيقية، نظرًا لقلة عدد متابعيها، مرجحة أنه من الممكن أن يكون مجتمع مواقع التواصل الاجتماعي أكثر جرأة في مناقشتها من المجتمع الحقيقي، لأن أكثرهم من الشباب، فهم من يتعرضون لمثل تلك الحالات الثورية، ولكن لا يمكن الجزم بذلك لأنه لا توجد دراسة إحصائية تخبرنا بذلك، فلا يصح التعميم، أو التأكيد، خاصة أنه سلوك مستهجن في مصر.
وعن هل من الممكن أن زيادة الجرأة في تناول تلك المواضيع على السوشيال ميديا، تتحول لجرأة الإفصاح عن العلاقات والجرائم غير السوية في المجتمع، قالت إنها أمور مستهجنة داخل المجتمع، ولن يقبل بذلك، فمثل أولئك يمارسون حياتهم في الخفاء، ولا يستطيعون إعلان ميولهم، إلا عندما يشاع عن شخصية ما، خاصة إذا كانت مشهورة، وتبقى مجرد شائعات متداولة، وليست اعتراف صريح من صاحبها أمام المجتمع، فلا أحد يجرؤ على ذلك في الواقع مثل السوشيال ميديا.
في القانون.. السوشيال ميديا جهة إبلاغ رسمية
وبالرغم من أنه لا يزال أمام السوشيال ميديا شوطًا كبيرًا للتأثير على المجتمع في تناول مثل تلك القضايا، إلا أن القانون شرع تلك المنصات كجهة إبلاغ رسمية، حسبما صرح الروائي والمحامي المصري أدهم العبودي.
فعن تأثير ترندات السوشيال ميديا فيما يتعلق بقضايا التحرش والاغتصاب وغيرها قانونيًا قال “العبودي” إن تلك القضايا عند إثارتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي تعد بلاغًا رسميًا للنائب العام، ولكن يجب أن يقدم أحد المجني عليهم بتقديم بلاغ بأدلة جنائية تدين الجاني، للتحقيق فيها، مؤكدًا أن التأثير لا يتخطى حدود الإبلاغ ولا يتدخل في مجريات التحقيق ولا الإسراع بالإجراءات.
لفت أيضًا إلى أن القانون يعاقب بتهمة التشهير كل من يتهم أحدًا على السوشيال ميديا دون دليل، فعندما تكتب إحدى الفتيات “بوست” عن تعرضها للاغتصاب أو التحرش من شخص ما دون دليل على ذلك، من الممكن أن يقدم المتهم دعوى تشهير ضدها، وينقلب عليها الأمر.
أكد المحامي أدهم العبودي، أن ترندات السوشيال ميديا تعد أيضًا أداة ضغط على المؤسسات المدنية، في بعض القضايا الحساسة مثل “المثلية الجنسية”، فمن الممكن إذا ما وُجد تفاعل كبير عليها، من الممكن أنه مع الوقت تُجبر المؤسسات المدنية للاعتراف بحقوقهم.
تأثيرات ترندات السوشيال ميديا إلى أين؟
النظر إلى الآراء المذكورة سلفًا، يطرح سؤالًا هامًا وهو “تأثير ترندات السوشيال ميديا إلى أين؟”، فبالرغم من أن الأمر ظاهريًا يبدو وكأنه “ترند وعدى” ويحل محله آخر، إلا أنه وبالرغم من إيجابية بعضها وتأثيرها القوي في عقاب الجاني، ونصرة المجني عليهم، وتصحيح الكثير من المفاهيم والأفكار الخاطئة التي تبناها أصحاب العقول الجامدة في المجتمع لأعوام طويلة، إلا أن هناك بعضها يتعارض تمامًا ليس فقط مع الأديان السماوية ولكن الفطرة السليمة، وغيرها لتهييج الرأي العام، وتكون أكثرها ذات مصادر مجهولة، ينساق ورائها الكثيرين، بانفعال شديد، دون التروي والبحث عن الحقيقة، مثلما يحدث في فبركة تصريحات لرجال الدين أو المسؤولين وغيرهم، وهو ما يضعنا أمام خطر يجب الحظر منه، خاصة على من هم دون سن الرشد، السهل اقتيادهم لأفكار وأساليب حياة أخطر ما يمكن تصوره.