حاتم حافظ
نادرا ما كنت أبيت خارج البيت وأنا طفل. كان لدى أبي فوبيا غير مبررة من هذا الأمر. كان أغلب أقربائي يمكنهم المبيت عندنا لكن لم يكن مسموحًا لي بالمبيت في بيوتهم. طوال طفولتي التزمنا بصرامة بهذه القاعدة غير مرات نادرة وتحت ظروف قاهرة. من بين تلك المرات مرة سمح لي أبي فيها بالمبيت عند خالتي “عليّة”. لا أذكر السبب، لكني أذكر أني كنت أحب الذهاب لخالتي. لم يكن لديها أبناء في مثل عمري لألعب معهم، ومع هذا كنت أحب الذهاب إليها لأني أحبها وأحب طيبتها التي تذكرني بجدتي “عين”. كانت لديها حديقة صغيرة وولد شقي يكبرني بعدة سنوات يسمح لي باللعب. كما كانت لديها نافذة تطل على منور يمكنني القفز منها إلى المنور وبقفزة أخرى أكون بالداخل مجددًا.
في الصباح جلستْ جوار النافذة تشرب شايًا بلبن فيما كنت أمارس هوايتي بالقفز من هنا لهناك ومن هناك لهنا، انتبهتْ خالتي لوجود شيء ملفوف في المنور فطلبت مني إحضاره. كان مريبًا أن يترك شخصًا ما شيئًا في منور لا يدخله أحد. فضضنا لفافة الورق فوجدنا داخلها كتابًا صاحبه أراد إخفاءه لسببٍ ما. حين جاء أبي لأخذي طلبتُ من خالتي أخذ الكتاب معي فسمحت لي بطيبتها المعهودة خصوصًا وأنها ترقبت ظهور صاحبه ليومين متتاليين فلم يظهر للبحث عنه.
كان اسمُ الكتاب “بيتٌ في الريح” لكاتب اسمه ضياء الشرقاوي. عرفتُ فيما بعد أنه مات عام 1977 دون أن يُكمل عامه الأربعين، أي وقت أن كنت في الثالثة. بالكاد تمكنتُ من قراءة القصص وبالكاد فهمت بعضها. ظل الكتاب الذي صدر عام 1980 – أي بعد وفاة كاتبه – فوق مكتب دراستي سنوات. كنت أنقّله معي من مكانٍ لآخر كلعبة. حين صار عمري اثنى عشر عاما تقريبًا فكرتُ في إعادة قراءته ولما فتحته اكتشفت أن غلافه مخفي بغلاف مزيف. كان مجلدًا على طريقة تجليد كراريس المدارس ولم يكن الغلاف المكتوب بخط اليد غير جلادٍ صنعه صاحبه ودوّن عليه اسم الكتاب واسم الكاتب. صاحب الكتاب يبدو أنه صنع له غلافًا مزيفًا ليخفي به غلافه الأصلي.
الغلاف الأصلي كان الخبيئة الثانية والأهم، على الغلاف الأصلي وجدتُ لوحة لآدم وحواء عاريين أسفل شجرة تلتف حولها حيّة وأوراق شجر طائرة ترف في كل مكان باتجاههما وفي عيونهما ارتسم مزيجٌ من البراءة والقلق والإحساس بالذنب والمحبة أيضا. لسنوات ظلت هذه الخبيئة هي خبيئتي الشخصية. لم أكن قد شاهدت جسدًا عاريًا من قبل، الحقيقة لا أتذكر إن كنت – وقتها – قد عرفت أن للرجل جسدًا غير جسد المرأة أم لا، لكن ما أذكره أني فُتنت باللوحة.
إحدى الفتن الفنية الكبيرة في حياتي هي فتنة الجسد العاري. في سنوات مراهقتي لم أتعاطى المجلات الإباحية كما يفعل عادة المراهقون باستثناء مرة أطلعني فيها إيهاب ابن خالي على ورق كوتشينة طُبعت على ظهره صورًا لنساءٍ إباحيات. حتى الأفلام الإباحية – وكانت متاحة على شرائط فيديو وقتها – لم أشارك الأصدقاء مشاهدتها غير مرتين تقريبا. أصابتني بالاشمئزاز رؤية كل هذه الأجساد المبتذلة، المكشوفة، الفاجرة، المدنسة. أتصور الآن أن هذا الاشمئزاز – والغضب – الذي شعرت به تجاه هذه الإباحية كان مصدره شعوري بأنها تنتهك جلال الجسد العاري، كما أنها ابتذال لعمل من أعمال القداسة. كنت مؤمنًا بأن الجسد العاري يمكنه أن يكون فنيًا كما يمكنه أن يكون مبتذلا. بمعنى آخر فإن الجسد العاري هو نفسه يمكن استخدامه لصنع عمل دنيوي أو لصنع عمل من أعمال السماء. عمل زائل أو عمل خالد.
اللوحة نفسها كانت لحواء وآدم عاريين لحظة اكتشاف عريهما. اكتشاف العري كان بديلًا فنيًا – أكثر منه واقعيًا – للمعرفة، وللخطيئة أيضا. كانت لحظة العري لحظة معرفة ولحظة عقاب في الآن نفسه. الوقوف عاريًا أمام الآخرين أو أمام نفسك كانت لحظة خزي كبيرة وعقابًا مرعبًا، لكن هذا الخزي وهذا العقاب يمكن السخرية منهما بالتعري طوعا، بأن تعتبر عريك فضيلةً أخرى لفضائلك. وقتها يصبح تعريك تحديًا للسلطة التي عرّتك من أجل عقابك. تجاوز الشعور بالذنب دون التفريط في الكرامة هذا ما عناه لي الجسد العاري فنيًا. الفارق بين جسد عاري في لوحة لمحمود سعيد أو مودليانو وبين جسد عاري على ظهر ورق لعب هو فارق في الكرامة الإنسانية. الجسد العاري فنيًا يعني لي أن تعيش متصلًا بوجودك الحيواني ولكن محتفظًا بكرامتك. يعني أن يغرس الإنسان قدمه في الأرض فيما يمد رأسه لتطال السماء. هذا الكائن الإنساني الهش ولكن الخالد لم يعبّر عنه غير فن الأجساد العارية.
فُتنت بعدها أكثر بالأجساد العارية في عصر الباروك. في العصور الكلاكسيكية كان الجسد فاتنًا لكنه كان صلبًا كحقيقةٍ مفارقة للعالم، كإلهٍ مُطل من شرفته العلوية من خلف غمامة. في عصر الباروك كان الجسد مدهشًا لكنه كان إنسانيًا أكثر. كان في حالة حركة فتبدى أكثر بشرية. كان في مسار الزمن وليس خارجه. حتى الآلهة أنفسهم في تماثيل الباروك كانوا في حالة وجودية بشرية. تمثال اغتصاب برسيفيني للإيطالي بيرنيني مثلا لا يمكن تخيل قبضة بلوتو على فخذ برسيفيني إلا كقبضة ذكر حتى لو كانت قبضة إلهية.
حتى تصوير الأجساد العارية المعيبة، الكهول العاريين، حتى الجسد الميت كان يبدو لي منتصرًا ومزهوًا بخلوده، أكثر من عري الأبطال في تماثيل اليونان بكامل عنفوانهم. كرامة الإنسان كانت في قدرته على أن يجاوز طبيعته كحيوان دون التنكر لها، وفي الجسد العاري كانت تكمن هذه الكرامة، وهذا التمرد، وهذا التحدي، وهذا الانتصار على الفناء. يتحول الجسد إلى تراب لكنه يظل خالدًا في لوحة.. في تمثال.. في صورة فوتوغرافية.. في ذاكرة الآخرين.