توقفت منذ العام الماضي عن متابعة التلفزيون في رمضان، إذ أنه يزخر بإنتاج درامي ضعيف مكوناً من: إما قصص منقولة من أفلام ومسلسلات أجنبية، وإما قصص استهلكت في أكثر من عمل درامي من قبل وأبطالها حرصين على التواجد وليس أكثر، وإما أعمال تحمل مشاهد وألفاظ لا تتناسب مع الشهر الكريم، فضلاً عن البرامج ذات الأفكار المستهلكة حيث يطرح أصحابها ذات الأسئلة على ذات الضيوف كل عام، ماعدا برامج رامز جلال التي أعتبرها التسلية الوحيدة الحقيقية للصيام، بالإضافة إلى رقيها وخفتها وتجديد أفكارها مقارنة ببرامج منافسيه سواء العام الماضي أو هذا العام.
سعدت حينما رأيت إعلان مسلسل حارة اليهود، أخيراً سيكون هناك إنتاج محترم يستحق المشاهدة، وعمل يؤرخ حقبة هامة من تاريخ مصر لا أعلم لماذا أهملها صناع الدراما في مصر، فحتى الآن لا يوجد أعمال فنية تؤرخ حرب ١٩٤٨ وبداية هجرة اليهود من مصر وحياتهم قبل الهجرة،كانت آمالي أن أشاهد عملاً اجتماعياً تاريخياً يحترم عقلية المشاهد، لأجد عكس ذلك، فحتى الآن تدور أحداث المسلسل حول قصة حب ليلى اليهودية المصرية وعلي الضابط المصري، والذي يبدو أن أحداً لم يهتم بالبحث عنه والاطمئنان عليه سوى ليلى حبيبته. بغض النظر عن الحياة في الحارة، فاليهود عاشوا حياة طبيعية، مثلهم مثل طوائف الشعب الأخرى، والعلاقات بينهم وبين جيرانهم اتسمت بالمودة والمؤاخاة، ولذلك لا يعتبر المسلسل أضاف جديداً في هذه الجزئية.
كمشاهد، كنت في غنى عن رؤية رقص “ابتهال”في بيتها بدون سبب أكثر من مرة ومعايرة “تريز”لزوجها بسبب ضعفه أو عجزه الجنسي وخيانتها له، بالإضافة لجميع مشاهد بيوت الدعارة المرخصة التي انتشرت في مصر وقت الاحتلال البريطاني، وسبق وتناولت العديد من الأعمال هذه الفكرة ولذلك فهي مستهلكة، ولا أرى مبرر درامي لمشاهد الرقص خلال عمل من المفترض أنه يناقش قضايا أهم، وإذا كان الهدف هو تناول جميع نواحي حياة اليهود المصريين والمجتمع الذي عاصروه بجميع جوانبه، فأين الفن والثقافة من هذه الجوانب، أم أن الفن اقتصر على الرقص في بيوت الدعارة بالرغم من إن اليهود كان لهم دور كبير في إثراء الفن المصري ولنا في أسماء كبيرة منهم خير مثال كالملحن الكبير زكي مراد وابنته ليلى مراد والمنتج الكبير توجو مزراحي والفنانة نجوى سالم ونجمة إبراهيم وغيرهم، فضلاً عن طبقة المثقفين التي لا يوجد لها آثر بالمسلسل، مثل يوسف درويش مؤسس الحزب الشيوعي المصري، وغيره من اليهود المصريين الذين عاشوا وكافحوا ضد الصهيونية وماتوا على أرض مصر.
أما بالنسبة لحرب فلسطين فحدث ولا حرج، لم أرى أحداً من قادة الجيش حتى الآن، ولا أدرى من الذي صمم مشاهد المعركة، صراحة بالنسبة لي مشاهد حرب فلسطين في فيلم “يا مهلبية يا”كانت أوقع مما رأيت في حارة اليهود! حرب فلسطين كانت أهم وأعمق من تناول المسلسل لها بكثير، لم يتطرق المسلسل حتى الآن إلى الجيوش العربية الأخرى والفصائل العربية المحاربة، وإن نجح في تصوير عدم جاهزية الجيش المصري للمعركة وقلة إمكانياته وتدريباته، حيث أن الحصار العالمي الذي فرض على مصر وقتها جعلها تعجز عن شراء أسلحة حديثة، فاكتفت بأسلحة من مخلفات الحرب العالمية، ولم يتسن الوقت للجيش من أجل التدريب عليها، إلى جانب معاناته من أثر الاحتلال البريطاني الذي عمل طويلاً على إضعاف الجيش وتحويل جنوده إلى مجرد آلات لتنفيذ الأوامر فقط، كل ذلك لم يمنع الجيش المصري من إحراز العديد من البطولات في هذه المعركة، وعانى من ويلات وأسر وتعذيب لم يتطرق إليها المسلسل كما يجب، ومشاهد تعذيب الضابط علي ذكرتني بتعذيب “يوسف الضو”في مسلسل المال والبنون على الرغم من أسر هذا الأخير في حرب أخرى (نكسة ١٩٦٧).
أما بالنسبة لمشاهد المستعمرات، فلا أعلم على أي أساس صور المخرج فلسطين على كونها صحراء جرداء خالية من السكان! فاليهود من أجل إقامة دولتهم حصلوا على ٧٧٪ من إجمالي أرض فلسطين وهي المناطق الخضراء ذات السهول والأنهار، بينما تركوا الأجزاء الصحراوية الصغيرة لفلسطين، وهجرة اليهود لم تبدأ من ١٩٤٨ وإنما بدأت منذ وعد بلفور ١٩١٧، فمنذ وقتها عمل اليهود على شراء أراضي ومنازل من الفلسطينيين بأسعار مرتفعة، أيأنهم توطنوا على أجزاء كبيرة من الأراضي، بالإضافة إلى أنه أثناء النكبة قاموا بطرد العديد من الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم، ومازال هؤلاء إلى يومنا هذا يحملون مفاتيح بيوتهم التي تركوها ويتوارثونها لحين عودتهم إلى أراضيهم، أي أن المستعمرات لم تبنى على صحراء غير مأهولة بالسكان ولم يكن المستعمرون بهذه “الطيبة”والبساطة كما أظهرهم المسلسل بل كانوا أعنف بكثير!
لا أعلم كيف ستتطور أحداث المسلسل وكيف ستنتهي، لكن على أي حال عمل مثل هذا كان لابد أن يراجعه باحثون متخصصون حتى يخرج بالشكل اللائق، حتى لا يكون مجرد حشو درامي يعبر عن رغبة القائمين على المسلسل بالتواجد من أجل التواجد، فصناع العمل كان لديهم فرصة كبيرة لإخراج ملحمة اجتماعية تاريخية متميزة، لكن عدم دراسة الفكرة جعلته لا يختلف عن بقية الإنتاج الدرامي الذي نراه مؤخراً.