حاتم حافظ
في عام 1996 التحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وحين ذهبت للمدرج لحضور أول محاضرة وكانت في مقرر “تذوق الفن التشكيلي” فوجئت بالأستاذ يُعرّف نفسه ببساطة “أنا اسمي جمال قطب”! لم يكن الأستاذ جمال قطب يعرف أنه السبب في تحولي المبكر إلى القراءة الحقيقية – والحياة الحقيقية – وأنا في سن الثالثة عشر. في ذلك السن ذهبت لمعرض الكتاب دون خطة. وهناك رأيت صورة توفيق الحكيم على كتبه الصادرة عن مكتبة مصر. صورة توفيق الحكيم الموقعة باسم جمال قطب كانت الطريق لاكتشاف توفيق الحكيم الذي كان نبي هذه المرحلة الجديدة لي كقاريء. صورة الرجل الكهل ذو الشارب الأبيض والباريه والنظارة ذات الإطار الأسود والنظرة المتأملة أجبرتني على اقتناء كتابين من كتبه: من البرج العاجي وتحت المصباح الأخضر، رغم أن الكتابين كلفاني ستة جنيهات كاملة!
حتى الآن أعتبر الكتابين الساقين اللتين سرت بهما في الحياة كإنسان وككاتب. كانا أيضا هاديين للثقافة الحقيقية التي صرت أبحث عنها بعدها في كل مكان كالمجذوب. حياتي كقاريء – وربما ككاتب بل وإنسان – يمكن أن تنقسم لقسمين: ما قبل قراءة توفيق الحكيم وبعدها. كَتب توفيق الحكيم المقالات الواردة فيهما في ثلاثينيات القرن الماضي ولم يُكمل عامه الأربعين بعد. كان وقتها شابا ورغم ذلك انطبعت في عقلي صورة الكهل. غزارة الثقافة وعمق الفكر أكدا لدي هذا الانطباع المزيف لدرجة أني بدأت أتعامل مع حداثة عمري كذنب مخجل. الصورة التي كانت على الغلاف هي الصورة التي تمنيت أن أكونها في المستقبل، حتى أني – بوَحي من الحكيم – بدأت في التهيؤ لأن أكون راهبا في معبد الفن كما كان الحكيم يصف نفسه. إيمان الحكيم بخطورة الفن والأدب صار الإيمان الذي اعتنقته منذ ذلك الحين. لدرجة أني – كما أي شخص يقرر التبتل – بدأت في حمل صليبي والسير خلف إيماني معتزلا الحياة. حتى الحب الذي كنت غارقا فيه كمراهق صار شيطاني الذي يجب أن أقاومه. اعتزلت بعدها كل متعة وشعرت أن روحي وعقلي فارغان وعلي ملأهما. ومن أجل ذلك كان واجبا وفرضا علي أن أعبر – كما كتب الحكيم في مقدمة كتابه – الوجود الأرضي: نهاري في برج عاجي وليلي تحت مصباح أخضر!
افتتح الحكيم كتابه تحت المصباح الأخضر بعبارة من الإنجيل: “خذوا كلوا هذا هو جسدي.. خذوا اشربوا هذا هو دمي”. لم أكن حتى هذه اللحظة قد قرأت الإنجيل ولم أكن أعرف عن المسيحية سوى ما تلقيناه في صبانا. أن تكون مسيحيا كان بالنسبة لنا يعني أن تكون غامضا، أن تكون غريبا. في طفولتي تعرفت ببنت تكبرني بعامين. كنت في العاشرة تقريبا حين صادقت زميلة في المدرسة لم أعرف عنها غير اسمها. كنا كل يوم بعد انقضاء اليوم الدراسي نتجمع في حديقة المدرسة جوار مبنى الإدارة انتظارا لذوينا. كان الأولاد والبنات يلعبون فيما كنا نجلس أنا وهي متجاورين على دكة بالحديقة نتكلم. لم يكن ما بيننا حبًا بالطبع، فوقتها لم أكن أعرف الحب ولا أطمح إليه، فما جمعنا صداقة بريئة وتفاهم عميق. بعد فترة ذهبت للقائها كالعادة فوجدتها تبكي ولما سألتها عن سبب بكائها أخبرتني أن صداقتنا لا يمكن أن تكتمل. اندهشت ففسّرت لي: أنا مسيحية وأنت مسلم! أتصور أني وقتها لم أكن أعي معنى الكلمتين. صحيح أني كنت أذهب مع أبي للجامع كل جمعة، وبدأت في تدريبات الصوم في رمضان لكن حقيقة لم تُطرح مسألة أننا مسلمون في أي وقت. حين عدت للبيت سألت عن معنى الكلمتين ويبدو أن أمي لم تكن مقدرة خطورة السؤال فشرحت لي ببساطة أننا مسلمون وأن لنا أصدقاء مسيحيين نحبهم ويحبوننا، وأن الفارق بيننا فارق هيّن لا يشغل البال.
وقع العبارتين اللتين صدّر بهما الحكيم كتابه دعاني للبحث عن الإنجيل لقراءته. كنت وقتها – وأنا في الثالثة عشر – أصلي بانتظام، وأصوم رمضان كاملا، لكن بدأ عقلي في السؤال. قررت وقتها أن لا أكون مسلما بالوراثة. لم أتوقف عن الصلاة لكني حصلت على الإنجيل وبدأت في قراءته، وبدأت ألح على أصدقاء المدرسة لفهم ما غمض علي فهمه. كانت أصعب مسألة بالنسبة لي تصور الطبيعة الإلهية للمسيح، وتصور فكرة التثليث. أصدقائي المسيحيون لم يكونوا يعرفون أكثر مما تلقوه عن آبائهم وكهنتهم، كانوا يرددون الكلام كما سمعوه دون فهم حقيقي، مثلما كنا نردد أيضا ما سمعناه دون فهم حقيقي. بسبب إلحاحي الشديد في المعرفة دعاني صديق للذهاب معه للكنيسة. استأذنت والديّ فسمحا لي. كانت الكنيسة القريبة من بيتنا ومدرستنا هي: (كنيسة العدرا). كانت مفاجأة لي أن المصلين لا يضطرون لخلع أحذيتهم قبل الدخول مثلما نفعل ولا الجلوس على الأرض. حضرت مع صديقي القداس وانجذبت بشدة للطريقة الهادئة التي يلقي بها الكاهن عظته على عكس الصياح الذي كان الشيوخ يلقون به خطبهم لترهيبنا. وباستثناء هذا الفارق لم يكن محتوى ما قيل مختلفا عما كنت أسمعه عن الدين في أي مكان. بدا لي الأمر هيّنا كما أخبرتني أمي.
استمرت قراءاتي في الأديان بعدها، قرأت التوراة كاملة متجاوزا إرث العداء التاريخي الذي تلقيناه لليهود. كأديب ناشئ انبهرت بلغة التوراة. تقديمات وتأخيرات المبتدأ والخبر في كل جملة. افتتاحية سِفر التكوين اعتبرتها من أجمل ما كُتب في الأدب. نشيد الأنشاد بإيحاءاته الحسية. شعرت بالرهبة التي كانت تنتابني قبل آذان الفجر في رمضان. كنت قبل آذان الفجر أصعد لسطح بيتنا أردد أدعية عبد الحليم الدينية مغازلا السماء ومترقبا الخيط الأبيض من الليل فأشعر كما لو كنت أترقب وحيًا ما.
بعد اكتمال القراءة اكتشفت أني أكثر شعورا بالراحة في معيّة الإسلام. بدا لي الإسلام أقل تعقيدا، فمحمد ليس إلا رجلا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ليست له معجزة، ولكي يكون الإنسان مسلما ليس عليه أن يتعمد ولا أن يبذل نفسه في طقوس – بدت لي كصبي – سحرية. كما أنه ليكون الإنسان مسلما عليه أن يؤمن باليهودية والمسيحية. قررت وقتها – بالاختيار وليس بالميراث – أن أكون مسلما دون التفريط في الإيمان اليهودي أو المسيحي. وحتى كتابة هذه السطور ألزم نفسي بقراءة الإنجيل كل فترة والاسترشاد بعظة الجبل التي أعتبرها واحدة من جواهر عقد الإيمان الإبراهيمي. لسبب ما كنت كثيرا ما أخلط بين عظة الجبل وبين خطبة الوداع للنبي محمد، أعتبرهما نصا واحدا مقسوما على لحظتين. حين قرأت كتب السيرة بعدها هالني التقدير البالغ من النبي محمد للنبيين موسى وعيسى حتى أنني بكيت وأنا أقرأ موقف النبي بعد فتح مكة حين وضع كفه المباركة على أيقونة العذراء والمسيح المعلقة على جدار الكعبة مستثنيا إياها من حملة تطهير الكعبة من الأوثان. أن تكون مسلما تعني أن تكون إبراهيميا. صرت مسلما بهذا المعنى. والآن أفكر في أن المعرفة الدينية التي حصلت عليها بنفسي بعيدا عن سلطة رجال الدين هي التي حصّنت إيماني.
في ذلك الوقت من عام 1987 كتبتُ أول قصة حقيقية. عن شاب اسمه محمد يقع في حب شابة مسيحية اسمها إيزيس، يترفع عن خرف المتعصبين في كل دين فيذهب للصلاة مرة في الجامع ومرة في الكنيسة، لكنه في نهاية القصة يتزوج فتاة اسمها فاطمة!
ومع هذا أسميت القصة باسم إيزيس!