عمر خليل
“تفتكر التاريخ هيقول علينا إيه؟ يا ترى الناس هتفتكر حاجة من اللي عملناها علشان البلد دي؟ هيفتكروا إننا كنا بنتسابق على تسجيل الأغاني مجانًا وقت العدوان الثلاثي ووقت النكسة؟ هيفتكروا إننا سافرنا لليمن علشان الثورة فيها، وللجبهة مع الجنود في حرب الاستنزاف ووقت حرب أكتوبر، وغنينا للقضية الفلسطينية، وثورة الجزائر اللي كنا بنام ونصحى على أخبارها، كأنها أخبار مصرية محلية؟”
هذه الكلمات للمطرب الكبير محمد رشدي ستجدها على غلاف مذكراته التي حققها وكتبها الكاتب الكبير سعيد الشحات تحت عنوان محمد رشدي “موال أهل البلد غنوة” والصادر حديثا عن دار ريشة للنشر.
عاصر “رشدي” عهودا سياسية وتحولات إجتماعية عديدة منذ مولده عام 1928 حتى رحيله عام 2005، هذه الفترة الطويلة قدمها الشحات بأسلوب سلس وسينمائي في دفتي الكتاب الذي يقع في 330 صفحة وصمم غلافه الفنان عبد الرحمن الصواف.
مولد سيدنا إبراهيم الدسوقي وليلى مراد
رسم الكاتب الحكايات والشخصيات بشكل سينمائي حتي تستطيع رؤيتها منذ البذرة الأولى في تكوين محمد رشدي الذي كان يتعلق بأمه منذ نشأته بمدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ، والتي كانت ترفض أن يصبح مغنيًا وكانت تريد أن يصبح موظفًا وأفندي مُتأثرة بنظرة المجتمع في ذلك الوقت، إذ كان الأفندية الموظفين هما دليل الأبهة والاستقرار.
كان مولد إبراهيم الدسوقي يمثل أهمية كبيرة في حياة “رشدي” الذي يقول “كان أقصى حلمي أن أغني في الموالد التي كانت لا تقل أهمية لدي جمهورها عن أهمية عبد الوهاب، وكان حلم رشدي على موعد مع القدر الذي غير طموحاته وهو صوت ليلى مراد الذي تعلق به محمد رشدي وقال “صوتي ظهر بأغاني ليلى مراد..هى اللي فتحت عيني على غناء مختلف عن غناء مولد الدسوقي”.
تأثير فريد باشا زعلوك وحفل أم كلثوم
انتقل الكتاب بالمشاهد لشخصية فريد زعلوك باشا الذي تصدر مرحلة رئيسية من حياة “رشدي” الذي كان صاحب فضل عليه في إلحاقه بمعهد فؤاد للموسيقى، بينما أبرز سعيد الشحات دور حفل أم كلثوم الذي صنع نقلة معنوية في طريق رشدي الفني من خلال إشادتها بموهبته مع فريد زعلوك قائلة “الواد ده صوته يجنن هيبقى مهم”.
ليالي القاهرة وعبد الوهاب
انتهت أوقات الوداع، وحمل رشدي زاده وزواده، تاركًا دسوق إلى القاهرة في لوكاندة الفردوس المُطلة على ميدان الحسين، وفي ليالي القاهرة عُرف الطريق لعبد الوهاب وحديث الصحافة عن سرقة عبد الوهاب لأغنية “أنت ولا انتش دارى” الذي غناها على خشبة المسرح عام 1948 من مطرب ناشئ في الأفراح بشارع محمد علي تبع نقابة العوالم.
الإذاعة واستدعاء من النيابة
اعتمد الكاتب على توثيق حياة “رشدي” من العديد من المصادر ليكون نص موثق خلال عرض المُذكرات، حيث نشرت مجلة “الإذاعة المصرية” في عددها “845” يوم 26 مايو عام 1951 صورة لمحمد رشدي وتحتها تعليق “محمد رشدي يذيع لأول مرة 7:45 مساء الثلاثاء الموافق 29 مايو عام 1951 أغنية “سامع وساكت ليه” كلمات حسين طنطاوي ولحن وغناء محمد رشدي”، لكن فجأة تتجدد مسألة السرقة من مكتب عبد الوهاب حيث استدعاء من النيابة.
بين الحياة والموت
تعرض “رشدي” لحادث شهير على طريق السويس، جعله بين الحياة والموت، ظل يعاني منه لمدة عامين متواصلين، وقبلهم كان “رشدي” مُشتتا ضاع منه ما يقرب من 8 سنوات رصدها الشحات بتفاصيلها النفسية من خلال حديث رشدي ومقارناته بعبد الحليم حافظ.
مقارنات مع العندليب
يتحرك بنا الكتاب إلى الأمام وظهور شخصيات مهمة في حياة “رشدي”، نقابل سعد عبد الوهاب الذى يختار لرشدي اسمه الفنى “محمد رشدى” بدلا من “رشدى محمد”، ومحمد حسن الشجاعي الذي كان بمثابة حارس البوابة التي انطلق منها “رشدي” للاحتراف ومزج الموهبة بالثقافة الموسيقية، لكن يبقي صراع واللقاء مع عبد الحليم حافظ الذي كان يعرف ماذا يريد بعكس “رشدي” الذي كان دائمًا مشتت، إذ كان يرى في الإذاعة مصدرًا للرزق فقط.
لقاء الأبنودي وبليغ وقنبلة وهيبة
عاد رشدي كمنافس قوي في مرحلة مليئة بالتفاصيل توقف عندها الكاتب ونقلها للقارئ بشكل متسلسل حتى وصل “رشدي” لقمة المجد عام 1966، بمشاركة مع الشاعر القادم من الصعيد عبد الرحمن الأبنودي ليشق طريقه في القاهرة، وكتابة أغنية “وهيبة” التي غناها لأول مرة “رشدي” في حفل عام 1964 وصارت أكبر نقطة تحول في حياته الفنية، ثم نقل الكاتب نقطة التحول الثانية مع بليغ حمدي بالاشتراك مع “الأبنودي” الذي شكلا جيلا جديدا في سلسلة فنية يعرضها الكاتب في سياق متصل موثق من أحاديث “رشدي” وبليغ حمدي و”الأبنودي”.
حقب زمنية وانعكاس ثقافي
استطاع سعيد الشحات تقسيم حياة “رشدي” إلى مراحل زمنية طبقًا لتطوره الفنى وانعكاسه الثقافى، لتستطيع كل مرحلة تكون بمثابة الشرارة التي أضاءت ما بعدها، تنقل الكتاب بين الحكايات كان سينمائيًا من حضور دائم لروح عبد الوهاب وخلفية مولد الدسوقي، وصراع عبد الحليم الذي انعكس على شخصية محمد رشدي، ونلتقي بحلمي بكر وحسن أبو عتمان اللذين صنعوا برفقة “رشدي” مواجهة مع ثلاثي عبد الحليم حافظ و”الأبنودي” وبليغ حمدي.
ونزور بين سطور الكتاب عددا من البلدان العربية لمتابعة أحداثها بداية من سقوط فلسطين مرورًا بالوحدة بين مصر وسوريا، كما نعيش لحظات يغمرها الحزن والألآم تنطلق من صراع الأحزاب في عصر الملك فؤاد ثم نكسة 56 ومن بعدها موت الرئيس جمال عبد الناصر وحكايات آخرى نسجها “الشحات” في المذكرات التي تعود إلى بداية تسعينات القرن الماضي، وصولا لرحيل لمحمد رشدي عام 2005 لتحمل السطور الأخيرة من الكتاب كلمات مؤثرة للراحل عبد الرحمن الأبنودي ودع بها صديقه العزيز قائلا “مع السلامة يا محمد.. مع السلامة يا حبيبي.. السلام أمانة لبليغ”.