حاتم حافظ
مات جدي لأمي “حامد عبد الله” قبل عيد ميلاده المائة بشهور قليلة؛ الأمر الذي أصابنا بالإحباط، وجعلنا نظن أنه مات متعمِدًا؛ ليفسد حفل المئوية الذي كنا نُعد له! مات جدي قبل عامه المائة بشهور بينما كنت في سن الثانية والثلاثين تقريبا، وهو ما يعني أني حين وُلدت كان قد صار بالمعاش منذ عدة سنوات. لهذا السبب لا أتذكر أبدا أني رأيته إلا جالسا في البيت. ومع هذا اعتدت رؤيته بكامل أناقته، حتى لو كان في طريقه لشراء شيء من نهاية الشارع فإنه يرتدي بدلته كاملة، صيفا أو شتاء. وفي المنزل كان يرتدي دائما البالطو فوق بيجامته أو جلابيته. كان مظهره – بنظارته البولس وربطة عنقه – يجعله أشبه بكاتب. لكنه لم يكن كاتبا، والمرة الوحيدة التي طلبت منه كتابة مذكراته – كشخص عاصر قرنا كاملا من تاريخ مصر – لم يكتب غير شكوى من جدتي؛ لأنها تخفي عنه الحلوى!
منذ طفولتي كنت – وباقي الأحفاد – نتبادل الأساطير التي سمعناها عن قسوته من أبنائه، منها مثلا أنه حرّر بلاغا ضد ابنه يتهمه بالسرقة لمجرد أن الأخير التحق بمعهد الطيران ضد رغبته! كنا – نحن الأحفاد – نشعر بجفاف مشاعره بالمقارنة بالحنية المفرطة لدى جدتي، وذلك كان شيئا ظالما للغاية! كان صموتا أكثر الوقت، ونادرا ما يشاركنا في أي شيء، يتنقل من غرفة لغرفة خلفنا متلصصا كما لو أنه يراقبنا، وكنا نخاف منه لهذا السبب، حتى أن ابن خالتي “عُمر” – وكان طفلا وقتها – أقسم ألا يزور جدتي حتى يموت جدي! لم نشعر أنه يحبنا، على الأقل لم نشعر أنه يحبنا أكثر من قططه وزهوره التي كان يرعاها بنفسه. الحقيقة كنا ظالمين جدا لجدي في ذلك الوقت؛ كان في السبعين حين كنا مجرد ثلة من الشياطين الصغار، وبتأمل بسيط أعترف: كان جدي – فقط – شخصا لا يجيد التعبير عن الحب الذي يشعر به تجاه الآخرين. حين ماتت جدتي كنت أمسك ذراعه لنعبر عتبة الجامع الذي سوف نصلي عليها فيه، وفجأة انفجر في البكاء حتى أني خشيت عليه. كان يحبها لكن طبيعته لم تساعده على الاعتراف بحبها إلا بأن يبكيها! وكان يحبنا كلنا لكنه لم يعرف طريقة تمكنه من الاعتراف بالحب، ونحن لم نبادر بالاعتراف.
بالنسبة لي كان جدي رجلا طيبا للغاية. أنا الوحيد تقريبا الذي كان يمكنه الجلوس جواره وتبادل الحديث، ليس هذا فحسب بل إني استطعت إضحاكه أكثر من مرة. ومعي كانت كل الأساطير عن قسوته تسقط واحدة وراء الأخرى. لهذا أظن أني الوحيد – باستثناء ابنته الصغرى التي أنجبها بعد الستين – الذي اعترف له بالمحبة. اعترف بحبه لي عدة مرات ولكن على طريقته، من بينها مرة أهداني ريشة الكتابة التي كان يحتفظ بها منذ الأربعينيات، والتي ظللت أكتب بها لفترة مقلدا الكُتاب القدامى، ومن بينها مرة أهداني مجلدين كبيرين وقديمين كان يحتفظ بهما في مكتبته، رغم أني لا أتذكر رؤيته وهو يقرأ.
كنت ما بين الثالثة عشر والخامسة عشر تقريبا حين قلّبت في مكتبته التي كانت تحوي كتبا قليلة جدا وكلها مجلدة. أغلب الكتب كانت في القانون لكن من بينها كانا هذان المجلدان الكبيران. كنت أظن أنهما كباقي الكتب لكن حين فتحتهما وجدتهما يضمان أعدادا من سلسة كتاب الشعب التي كانت تُنشر غالبا بداية من نهاية الخمسينيات. وما أن فتحتهما حتى شعرت كأني أفتح بوابة علي بابا، فقد اكتشفت أن السلسلة تضم بين دفتيها ملخصات للأعمال الكاملة لكل من شكسبير وموليير، وملخصات للأعمال الأدبية الكلاسيكية العظيمة: الأعمال الكاملة لديستوفسكي وتولستوي وتشيخوف كمثال، وملفات كثيرة عن تاريخ المسرح وتاريخ الفن التشكيلي الكلاسيكي وأيضا ملفات عن أهم الموسيقيين الكلاسيكيين. كانت السلسلة في عمومها تستهدف تثقيف الشعب. والأجمل أنها حافظت على نقل روح الأدب الذي قامت بتلخيصه. فمثلا في تلخيص أية مسرحية تبدأ بفقرة تسرد الأحداث الأولى ثم تترجم مشهدا أو أكثر من بين المشاهد المهمة ثم تسرد أحداثا ترد بعدها قبل أن تترجم مشاهد أخرى وهكذا، فيمكنك كقاريء أن تتعرف على أحداث المسرحية وأن تتذوق أيضا المسرحية وتتعرف على أسلوب كاتبها وطريقة بنائه لحبكته. حين اكتشفت الكنز طلبت من جدي أن أستعير المجلدين ففوجئت به يهديني إياهما. لهذا ظللت أحب جدي ومهما شاركت أبناء أخوالي وخالاتي التندر على قسوته لم أكف عن محبته.
استغرقت شهورا طويلة في قراءة المجلدين، وكلما انتهيت بدأت مجددا، كنت أخشى أن يفوتني شيئا، أو أن أتجاهل معلومة دون أن أفهمها أو أن تستغلق علي فكرة. حتى أني قسوت على نفسي بفرض اختبارات حاسمة. كنت أقرأ موضوعا مثلا عن الرسم في عصر النهضة ثم أبدأ في كتابة أسئلة تتعلق بالموضوع ثم بعد أيام أجلس للإجابة عن الأسئلة، وكنت أعاقب نفسي بإعادة قراءة الموضوع إن لم أكتب الإجابات الصحيحة كاملة. كنت نهما لمعرفة كل شيء عن الفن الذي تعاهدت على أن أكون – كتوفيق الحكيم – راهبا في معبده. كنت نهما لمعرفة ما لا أعرفه عن الفن، وهو ما كان يعني كل شيء. فكل ما كنت أعرفه عن الفن – وقتها – كان ما يجيء في التليفزيون وهو قليل وغير كاف.
في ذلك التوقيت تقريبا تعثرت مصادفة – وأنا أبحث عن إذاعة أم كلثوم – بالبرنامج الموسيقي، فاكتشفت أن الإذاعة تذيع الموسيقى الكلاسيك التي أقرأ عنها، فصرت أسمعها ليلي ونهاري بخلاف الموعدين اللذين كانت أم كلثوم تغني فيهما. أحاطني البرنامج الإذاعي معرفة بأنواع الموسيقى، بالقوالب، بالفروق بين الموسيقيين. من بينهم جميعا أحببت ثلاثة: موتزارت، وتشيكوفسكي الذي شعرت بالفخر بسبب عمله الأشهر شهرزاد (التي أوقعني الحكيم وطه حسين في عشقها)، وخاتشادوريان الذي سمعت أحد أجمل الفالسات التي سمعتها في حياتي منه. حاولت التأقلم مع الغناء الأوبرالي أكثر من مرة، واتهمت نفسي بالغباء كثيرا لكني لم استسغه إلا في مرات نادرة مثل المرة التي سمعت فيها الفلوت السحري.
بيتهوفن أخافني كثيرا، كنت أتجنب سماعه، لدرجة أني هربت فترة طويلة من سماع سيمفونيته الشهيرة بسبب عنوانها: ضربات القدر! حين سمعتها – بعد التغلب على خوفي – اكتشفت السبب. موتزارت كان ساخرا بينما كان بيتهوفن جادا طوال الوقت. نزيها، لكن عصبي المزاج. موسيقى موتزارت كما لو أنها كانت تسخر من فكرة الجدية حتى حين تتسربل بمسوح الجدية. فيما كان بيتهوفن نفسه يتلاعب بنا كإله غاضب. كإله يحاول فرض جديته علينا للتأكد من أننا فهمنا أن الحياة ليست إلا مأساة. بدا لي موتزرات كما لو أنه أكل من الشجرة التي أمره بيتهوفن ألا يأكل منها. لهذا السبب تقريبا وقعت في غرام موليير. موليير كان جادا ولكنه كان ساخرا، كان شيطانا صغيرا مثله مثل موتزارت، وكان كلا منهما يستطيع قلب المنضدة التي يعدها بيتهوفن للعشاء الأخير! المنضدة التي كان شكسبير يُدعى إليها كثيرا، لكنه – كوغد أصيل – كان يسخر من الوليمة حين يغادرها. شكسبير كان يسخر من الآلهة لكنه كان يطيل البقاء في حضرتهم فيما كان موليير يجلس أسفل المنضدة ليشبّك سيور أحذيتهم – بمساعدة لاهية من موتزارت – ليجعل منهم أضحوكة. ربما لهذا السبب أحببت أفلام وودي آلين.
والآن – ومع الوقت – وأنا أجدني أميل أكثر فأكثر للمأساة، وأبدأ في تفضيل تنيسي ويليامز على الجميع، وأعتاد سماع ضربات القدر دون خوف، أغالب ارتجافاتي ومخاوفي – قدر استطاعتي – بالسخرية!