حاتم حافظ
خالتي نادية، أو نانو، كما نناديها، كانت في ليبيا مع زوجها حين وُلدت. بعدها سافرت إلى السعودية، ثم الإمارات. وفي كل بلد استقرت فيه لفترة كانت تعود منه بالهدايا، وبأسبابٍ للتأمل. كانت أصغر أخواتها وأكثرهن بهجة وانطلاق، لا تستقر في مكان، دائما لديها لوازم رحلات لم تذهب إليها، ووسائل تسلية لا يستخدمها أحد. صورها القديمة تشبه صور صباح، في جمالها، وأناقتها، وبهجتها. أمي كانت ترتدي الميني جيب لكن نانو فكانت ترتدي الميكرو جيب، لأنه كان أنسب لها نظرا لطولها الفارع على عكس أمي التي كانت متوسطة الطول.
بعد سفرها للسعودية عادت بعباءة سوداء وقفازات سوداء وامتنعت عن سماع الأغاني التي تحبها لأنها حرام! كنت جالسا في غرفتها أقرأ حين سمعتها تسأل “جدو سليمان” (الذي كان عالما وشيخ طريقة خلوتية) عن سماع الأغاني فضحك ضحكته الجميلة وقال “لو هتسمعي أم كلثوم وعبد الوهاب يبقى حلال مصفي”، بعدها لم تمانع سماع الأغاني أو مشاهدة التليفزيون. حين عادت من الإمارات كانت قد عرفت المزج والمواءمة بين الإيمان وبين الحياة. صحيح أن الإسلام الوهابي ظل في الخلفية مستقرا كشبح لكنه خُفف تدريجيا وهُذّب بالأخلاق الإماراتية الأصيلة والانفتاح على العالم. لم تتوقف وقتها عن لبس العباءات لكنها بدّلت العباءات القاتمة والكئيبة للوهابية بالعباءات الأنيقة للإماراتيات، وخلعت قفازاتها.
من بين كل الأشياء التي عادت بها من إقامات طويلة في ثلاث دول لم أحب شيئا أكثر من كتاب عادت به من ليبيا لتعلم الإيطالية. كنت في مدرستي الإعدادية أدرس اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وكنت – كباقي زملائي – أعتبر الإنجليزية لغة باردة نتعلمها لننجح، والفرنسية لغة نسائية نتعلمها كسرٍ مخجل لكن لا يليق بنا التحدث بها. لهذا فإن وقع الكلمات الإيطالية بهرني، وأبهجني. صرت أقارن بين good morning ثقيلة الظل والرتيبة رتابة الروتين البريطاني وبين Bonjour التي نضطر فيها نطق الراء غين بغنج لا يليق بصبية بدأ شعر شواربهم في النمو لتوه وبين Buongiorno التي تبدو كإلقاء نكتة مرحة. بدأتُ في تعلم بعض الكلمات كأني أتدرب على بعض النكات لألقيها على زملائي. أحببت الإيطالية حتى أنني اشتريت كتابا عن الشعر الإيطالي.
في المقدمة كتب المترجم أن اللغة الإيطالية لغة صالحة بحد ذاتها للشعر لأنها لغة موقعة. هي لغة موسيقية للغاية لدرجة أن أي عبارة عادية فيها تبدو – مسموعة – كمقتطعٍ من قصيدة. الحقيقة ليست أي عبارة فقط، ولكن أسماء الشعراء أنفسهم: كوراتسيني، كاردوتشي، بوتزاني، وبالطبع دانتي أليجيري. أي اسم إيطالي هو مقطع ما من قصيدة كتبها إله قديم في لحظة مرح.
عندما عاد هيرودوت إلى بلده عاب عليهم افتقادهم للحس المصري الذي – حسب وصفه – صنع من الأيام كلها أسبابا للاحتفال. كان المصري القديم يحتفل بكل شيء وحين يعوزه سبب للاحتفال لم يكن يحفل كثيرا وكان يحتفل بلا سبب. بتأمل موقف هيرودوت يمكننا تخيل الجمال والحرارة والمرح الذي تخلّق من امتزاج الحضارة الهيلينية بالحضارة الرومانية. الرومان كانوا بحر متوسطيين – كالمصريين – ولهذا كانوا أبناء للشمس، وحين يجتمع البحر والشمس يحضر المرح والعنفوان الأكبر للحياة: الرقص.
قبل ثمان سنوات تقريبا وأثناء بحثي عن محطة تذيع مباريات كأس العالم مجانا وقعت في يدي محطة إيطالية، كانت تذيع وقتها برنامجا صباحيا اسمه Detto Fatto وهو تعبير يشبه: قولا وفعلا أو شيئا من هذا القبيل. البرنامج كانت تقدمه شابة ذات ملامح بحر متوسطية مألوفة اسمها Caterina Balivo ويشارك في إحدى فقراته ستايلست خفيف الظل اسمه Giovanni Ciacci. البرنامج كان مبهجا لدرجة أني – وإيمان – ورغم أننا لا نفهم كلمة واحدة مما يقال – واظبنا على متابعته كل صباح حتى – لسبب غير مفهوم – “طارت” المحطة! فافتقدنا مرحه وبهجته.
الحقيقة أن القاريء يمكنه الآن تجربة قراءة الأسماء السابقة دفعة واحدة ليعرف بأي قدر تسكن الموسيقى في اللغة الإيطالية: Detto Fatto Caterina Balivo Giovanni Ciacci! لا يحتاج الإيطالي لكثير جهد ليكون شاعرا، لكن – لأن لغته لغة شاعرية – عليه أن يبذل جهدا كبيرا لكي يصبح شاعرا مميزا، لأن الرجل العادي يقول Buongiorno signora طوال الوقت!. العربي يحتاج لمعجزة كي يصنع موسيقى من لغته في رأيي. لهذا مال إلى صنع قوافي وأسجاع. لهذا أحب الشعر العامي أكثر، أو الشعر المصري، لأنه مسكون أكثر بروح البحر المتوسط، حتى أشعار الأبنودي الصعيدية، حتى تلك التي تتحدث عن السواقي والترع والنخيل، يمكنك تلمس روح المرح المتوسطي فيها. الروح البطلمية التي امتزجت فيها الروح الأوروبية بالروح الأفريقية.
في واحدة من أشهر الأغاني الانجليزية المعتقة بالروح الإيطالية: Mambo Italiano تعود فتاة إلى نابولي لأنها افتقدت المشهد الإيطالي: الرقصات المحلية والأغاني الساحرة، لهذا فإنها تبدأ في الرقص بجنون، لكنها لا تميل للشاب الصقلي لأن عروقه لا تجري فيها دماء رومانية صافية، فتبدأ في نصحه بأنواع الطعام والرقصات وحتى الخمور التي يمكنها أن تصنع منه إيطاليا حقيقيا.
في إحدى حلقات برنامج Detto Fatto التي أذيعت صباح إقامة مباراة ما بين يوفينتوس ونابولي بدأت كاترينا بغناء أغنية فريق نابولي وهي تلوّح علم الفريق. نابولي لم يحصل على الدوري طوال تاريخه غير مرتين وكان الوصيف في ثمان مرات فقط ومع هذا لم تتخل كاترينا عن محبته والغناء له متحدية جيوفاني الذي يشجع يوفنتوس. كزملكاوي قديم أستطيع تفهم محبة كاترينا لفريقها، خصوصا وأني كنت أميل بالطبع لتشجيع فريق الميلان وصيف الدوري المعتاد! كنت أميل للفريق الثاني بحكم طبيعتي كشخص على يسار السلطة، لكن محبة كاترينا لم يكن لها دخل بموقفها الأيديولوجي، كانت محبة خالصة لمدينة الشمس والبحر والمرح، وهو الدرس الذي تعلمته بعدها بسنوات بعد أن هجرت الفلسفة واستسلمت لسحر العالم، وبعد أن صارت أكثر آمال العمر تتطلع إلى نافذة مطلة على البحر.