حاتم حافظ
كان بمثابة فاجعة انتقالي – بعد حصولي على الإعدادية – إلى مدرسة حكومية. كنت في مدرسة آمون الخاصة طوال سنوات دراستي الابتدائية والإعدادية. مدرسةٌ كانت شديدة الانضباط فيما يتعلق بالسلوك العام. لم يكن مسموحا لنا أن نفك ربطة عنقنا أبدا، ومن يرانا في طريقنا للمدرسة كان يحسبنا حفنة من الموظفين الصغار بالبدل الرصاصية ورابطات العنق الخضراء وجواربنا البيضاء. وحين انتقلت لمدرسة حكومية ذهبت للمدرسة قبل بداية الدراسة بأسابيع لأسأل عن “اليونيفورم” فقال لي حارس المدرسة “روح الله يسهلك”. ولهذا فقد تخيلت ما يمكن أن يكون الزي الرسمي لمدرسة ثانوية وذهبت فاشتريته. في اليوم الأول ذهبت مرتديا رابطة عنق زرقاء على قميص سماوي وما أن اقتربت من بوابة المدرسة حيث كان الطلاب يتجمعون انتظارا لفتح البوابة حتى اكتشفت المأساة! خلعت رابطة العنق ووضعتها في جيبي بهدوء.
في الفصل الذي حُشرنا فيه دخل رجل يرتدي بنطلون أبيض وقميصا أبيض يتدلى كرشه خارجا من فتحته يكاد يمزقه، فتذكرت بالطبع أستاذ أسامة – مدرس اللغة العربية في مدرستي – الذي كان يشبه نجوم السينما في وقتها. الرجل ذو الحلة البيضاء وزّع شتائمه علينا بالتساوي، سمعت ألفاظا كنا بالكاد نلقيها فيما بيننا سرا. بعد دقائق فهمت نظرات باقي الطلاب لي ولصديق من مدرستي. في الفسحة الأولى عرفت أن الطلاب يطلقون على طلاب مدرستي لقب “البسكويت” فقررت ألا أكون بسكويتا. رأيت بعض الطلاب يتسللون إلى خلف المبنى فذهبت خلفهم. كانوا يتسللون ليدخنوا السجائر سرا فذهبت إلى أقرب طالب منهم وطلبت منه سيجارة! وبفضل هذا التصرف تعامل معي الجميع باحترام! ولم أعد ذلك الولد البسكويت الذي يتوقعونه.
بعد أن انتظمت الدراسة (الانتظام كان رمزيا في الأوقات التي يصل فيها مشرفو الوزارة فقط) بدأت في تمضية الوقت في القراءة. كنت أضع الكتاب على حجري وأظل أقرأ طوال الحصص. لم تكن هناك حاجة بالطبع لإخفاء أمر القراءة لأن المدرس غالبا ما كان ليهتم بما نفعل طالما لا نثير شغبا ولكني كنت أتحرّج التجرؤ بإتيان فعل مخالف. بعد فترة جلس جواري طالب وسألني عما أقرأ فأخبرته أنها رواية لمحمد عبد الحليم عبد الله فأخبرني أن والده يحتفظ بروايات كثيرة في شنطة سفر أسفل السرير ولا يسمح لأحد بالاطلاع عليها. ارتبت بالطبع فيما يقول فما الحاجة لإخفاء روايات. بعد أيام سرق لي رواية من روايات أبيه وطلب مني أن أعيدها حين أنتهي من قراءتها. كانت الرواية الأولى التي أقرأها لإحسان عبد القدوس. كان اسمها “لا شيء يهم”.
كانت رواية مختلفة عما قرأته حتى الآن. حتى روايات عبد الحليم عبد الله الرومانسية لم تكن بمثل هذه الجرأة. قصة الحب فيها لم تكن بريئة كعادة القصص التي قرأتها، وكان لأبطالها شجون أخرى غير الحب. كان بطلها – محمد – لا يبحث عن الحب ولكن عن الوجود. كان فنانا بوهيميا حتى في علاقته بحبيبته سناء، حتى حين يجد نفسه متزوجا منها يهرب إلى الأسكندرية مفلتا من التزاماته كزوج. كان شخصا وجوديا في مقابل صديقه الاشتراكي الذي يتورط في علاقة محرمة مع امرأة متزوجة وحين يطلبها للزواج ترفض مفضلة عليه زوجا ثريا. أما صديقهما الثالث فكان على النقيض منهما. شخص انتهازي يرقص على كل الحبال. وحين يشاهد محمد طفلا يغرق يسرع لإنقاذه وحينها يتذكر زوجته وابنه فيعود إليهما بعد أن اكتشف أن بالحياة أشياء يمكن أن تهم على عكس اعتقاده السابق: لا شيء يهم. محمد كان يتصور أن وجوده لا يتحقق إلا بحضوره في العالم في خفة الفراشة لكنه يكتشف أن الالتزام لا يتعارض مع الخفة، أو بمعنى آخر يكتشف أن الثقل يحقق الوجود طالما كان هذا الثقل باختياره الحر.
على مدار عام كامل تقريبا قرأت كل الروايات المخفية بفضل سارق الكتب الذي لا أتذكر اسمه والذي لم اسأله مرة لماذا سرق الكتب من أجلي. كان شخصا يظهر في لحظة ليضعك على الطريق ثم يغيب بعد انتهاء مهمته. كانت كل الروايات المسروقة لإحسان عبد القدوس. فتحت لي تلك الروايات آفاقا لم أكن أحلم بها. لم أعد مضطرا لاستدعاء القواميس ولا اللغة القديمة لأكتب القصص التي كنت أكتبها. كانت لغة إحسان سهلة مطواعة وكان يصل إلى غرض السرد بأبسط الطرق دون تعقيد أو تحذلق. حتى شخصياته كانت تشبهنا كصبية على أعتاب الشباب ولديها هموم تشبه همومنا وأسئلة تشبه أسئلتنا وحيرة تشبه حيرتنا. تعرفت من خلالها على الوجود الاجتماعي، على العالم كساحة صراع غير بريئة. على الأيديولوجيا كمحرك للصراع. كانت شخصياته تقاوم العالم باحثة عن حريتها، عن اختياراتها، وكانت طوال الوقت عرضة لتحمل تبعات تلك الاختيارات.
صرت حرا أكثر بعد قراءة إحسان. كان علي البحث عن اختياراتي والبحث عن أفكار لألتزم بها. وكان عليّ معرفة حدود العالم الذي يفترض أن أواجهه باختياراتي الحرة. تعلمت أيضا أن أحترم الاختلاف، وأحترم الاختيارات الحرة للآخرين حتى ولو لم تكن متوافقة مع اختياراتي. صرت من وقتها ليبراليا حقيقيا.
كانت أختي – مروة – ما تزال صغيرة حين تعرفتُ بإحسان. وكنت أراها صغيرة أكثر مما كانت عليه. وبسبب خوفي عليها وضعت روايات إحسان بين يديها. لم أكن واثقا من أنها سوف تفهم ما فهمته من قراءتها فبدأت في مناقشتها في كل رواية. كانت بطلاته تبحث عن الحرية فدفعت أختي لتخيل الحياة التي تريدها حين تكبر. كنت أتخيلها دائما مكان بطلة روايته أنا حرة ولهذا وضعت تجربة بطلته أمامها لأعفيها من التخبط. كتب إحسان في متن الرواية “ليس هناك شىء يسمى الحرية وأكثرنا حرية هو عبد للمبادئ التى يؤمن بها، وللغرض الذى يسعى إليه، إننا نطالب بالحرية لنضعها فى خدمة أغراضنا.. وقبل أن تطالب بحريتك اسأل نفسك: لأى غرض ستهبها”. وتركت لمروة حرية الإجابة على هذا السؤال بنفسها.
تشكلت علاقتي بالمرأة فيما بعد على هذا الأساس. بدأت في رؤية العالم كنسق اجتماعي قاهر للمرأة. في بيتنا لم يكن ثم تمييز بيني وبين أختي، وفي مدرستنا القديمة أيضا. في مدرسة آمون كانت البنات صديقات لنا مثل الذكور، حتى قصص الحب التي كانت تدور في الخفاء بيننا كانت بريئة للغاية. كنا نحكي لمدرساتنا – الشابات – عن مشاعرنا وكن ينصحننا بالتروي. لم تديننا مدرسة من المدرسات التي أسررنا لهن بأسرارنا بل أرشدننا لنحافظ على مشاعرنا البريئة دون أن تتلوث أو أن نتلوث. بفضلهن عبرنا أدغال مراهقتنا بسلام. وفي مدرستي الجديدة كنت أحتقر الطريقة التي ينظر بها الرفاق إلى طالبات المدارس الثانوي. كانوا يشتهونهن ويخشونهن في الوقت نفسه. كانت البنات بالنسبة لهم شهوة مستحيلة فكرهنهن، وبدلا من أن يبادلونهن المحبة ناصبوهن العداء. كفرائس لا يمكن الوصول إليهن كان عليهم اصطيادهن أو قتلهن، أو تركهن جريحات. تحولت مشاعر الرغبة إلى رغبة مكبوتة في الانتقام.