حاتم حافظ
التحقت إذن بمدرسة القبة الثانوية “العسكرية”. ظننت أننا سوف نتلقى فيها تدريبا عسكريا لكن كل ما تدربنا عليه هو الإسراع بالهروب من عصا الناظر الذي لم يكن يتورع عن إصابة أي طالب بعاهة بحجة الحفاظ على نظام غير موجود، والقفز من فوق سور المدرسة.
في المرة الأولى قررت الهروب من المدرسة دون سبب محدد اللهم إلا تجربة أن أكون في مكان آخر بينما يستسلم زملائي لحصص وهمية يقوم بها مدرسون وهميون. ذهبت وزميل إلى السينما، شاهدنا فيلما لنبيلة عبيد في سينما روكسي، ولأن الوقت – بعد السينما – كان مبكرا على العودة للبيت فقد ذهبنا إلى حديقة الميريلاند القريبة من البيت. ظللنا نائمين كل منا على دكة في الحديقة، نستيقظ لِيَلتهم كل منا سندوتش بينما يلتهمني الملل، قبل أن نعود لغفوة جديدة. وفجأة قمت من مكاني وقررت ألا أعيد الكرّة مرة أخرة. لم أجد معنى لهروبي، وكانت تجربة الهروب في ذاتها المعنى الوحيد.
في المرات التالية التي تغيبت فيها عن المدرسة كنت أخبر والديّ بأني لن أذهب للمدرسة لأني سوف أذهب لدار الكتب! لم يصدقاني إلا حين جاءهم خطاب إنذار بفصلي من المدرسة. لمعالجة الأمر قرر أبي زيادة حصتي من المصروف لأتمكن من شراء الكتب التي أريدها لقراءتها في البيت بدلا من التغيب عن المدرسة للذهاب للقراءة.
في دار الكتب اكتشفت أن العمر لن يكفي أبدا لقراءة كل ما أرغب في قراءته. كنت أقلّب في بطاقات الكتب المودعة في أدراج وأقضي الساعات فقط في حيرة اختيار كتاب لقراءته. التقيت هناك بشاب تصادف أن جلس على طاولتي. كان يعمل على رسالته للحصول على الماجستير في الفلسفة فقررت أن أتطوع لمساعدته. كنت أقرأ الكتب التي يريد قراءتها وأقوم بعمل ملخصات لها.
تعرفت على ابن رشد الذي يبدو أنه كان مهتما به أكثر من غيره. فتعمق لدي الشعور بجدوى العقلانية. أحببت الفلسفة لدرجة أني في السنة الأولى في كلية التربية كتبت بحثا عن التربية في فلسفة ابن رشد. لم يكن ابن رشد من الفلاسفة الذين كتبوا في التربية مثل روسو لكني اعتمدت في البحث على نظرية ابن رشد في المعرفة باعتبارها مدخلا لفكرة التربية المعرفية والعقلية، وبفضل هذا البحث صرت – وأنا في التاسعة عشر – صديقا لأستاذ التربية دكتور محسن خضر الذي دعاني لصالون أدبي كان يتردد عليه. كان محسن خضر قصاصا قرأت بعض قصصه في بعض الدوريات التي كانت تصدر بداية التسعينيات وكان مثقفا حقيقيا.
بخلاف الأصدقاء وائل أحمد وحسام حسين اللذين استمرت علاقتي بهما حتى الآن لم تترك السنوات الثلاث في المدرسة أية ذكرى طيبة. وحتى الآن لا أذكر غير موقفين اثنين كانا لهما أثر كبير في حياتي الثقافية. الأول حين زارنا مدرس شاب كان يتلقى فترة تدريبه في المدرسة حين أشار إلى قصيدة كنا ندرسها باعتبارها من بحر الطويل فأخبرته – باعتباري أكتب الشعر والأغاني – برغبتي في تعلم البحور فعرفني بمكتبة في الأزهر تبيع كتب يمكن أن تفيدني، ومنها اشتريت أول كتاب لتعليم العروض. أما الثاني فكان أستاذ إبراهيم طلخان مدرس اللغة العربية في الصف الثالث الذي قرأ لي موضوع تعبير وأصر على قراءته أمام الطلاب قبل أن يخبرهم بأني سوف أصبح “من أشاوس الناس”!
ومع هذا ففي السنة الثالثة – ربما – شعرت بالفخر بوجودي في مدرسة القبة الثانوية حين قرأت رواية الوسادة الخالية التي كان بطلها – صلاح – يدرس في نفس المدرسة ويسكن الزيتون (وأنا من سكان حلمية الزيتون) ويحب فتاة تسكن مصر الجديدة. شاهدت الفيلم بالطبع مرات كثيرة وحفظت حواره وأغانيه قبل أن أقرأ الرواية فاكتشفت أن صناع الفيلم عدّلوا في أعمار الأبطال لتتناسب مع نجمي الفيلم عبد الحليم حافظ ولبنى عبد العزيز. ولأن لبنى عبد العزيز – سميحة – كانت تسكن شارع السباق وكان صديق أبي معتادا على الذهاب للرهان على الخيل في سباقاته اكتملت أواصر الصلة بيني وبين الرواية.
حين خرج إحسان عبد القدوس من السجن الذي أودعه فيه صديقه “جيمي” اتصل به الأخير أثناء نشر حلقات الوسادة الخالية ليسأله “يعني إنت خرجت من السجن بوسادة خالية؟!” فأجابه إحسان “وهو الواحد ممكن يخرج من السجن بحاجة غير وسادة خالية!”. إحسان كان كاتبا سياسيا معروفا، وكان أحد أسباب قيام ثورة يوليو خصوصا بعد نشره تفاصيل قضية الأسلحة الفاسدة التي اتهم فيها الملك شخصيا، فسجنه الملك قبل أن يحاول اغتياله لكن المحاولة فشلت. وحين قامت الثورة استدعى الضباط إحسان في نفس اليوم فنصحهم باستبعاد فكرة إعدام الملك التي كانوا يدرسونها واقترح عليهم تعيين علي ماهر الذي تم تعيينه بالفعل بعدها بثلاثة أيام بعد تدخل إحسان لإقناعه.
إحسان بعد لقائه بالضباط ذهب لأحمد أبو الفتوح رئيس تحرير جريدة المصري ليخبره – بألم – أن مصر على مشارف حكم عسكري! كان غريبا أن يكتب إحسان رواية عاطفية في هذا الوقت، خصوصا وقد وُصم بأنه كاتب “أدب الفراش” في مقال كتبه العقاد الذي تجاهل كل تاريخ إحسان الوطني لمجرد خلاف شخصي بينهما. وفي حوار مع صلاح أبو سيف استنكرت مذيعة شابة أن يقوم أبو سيف المعروف بانحيازه للواقعية في أفلامه بإخراج فيلم عاطفي كالوسادة الخالية.
الحقيقة أن الفيلم كان محيرا للغاية، فصحيح أن قصة الحب بين صلاح وسميحة والتي تُرجمت لعدة أغاني من أجمل الأغاني العاطفية التي غناها حليم لكن الفيلم لم ينته كعادة الأفلام العاطفية بزواج العاشقين بل على العكس انتصر للزواج على حساب الحب! ورغم ذلك فأظن أن الفيلم لم يفهم غير في سياق القصة العاطفية بسبب اختيارات الممثلين، فلبنى عبد العزيز كانت خليقة بأن تكون معشوقة في حين فشلت زهرة العلا في أن تكون فتاة أحلام أي مراهق في ذلك الوقت أو غيره. ورغم انتصار الفيلم للفكرة التي طرحها إحسان في مقدمة الرواية والتي جاء بها “في حياة كل منا وهم كبير اسمه الحب الأول” فإن نجاح الفيلم تسببت فيه علاقة الحب الفاشلة التي بدت أكثر جمالا وصدقا من علاقته بزوجته التي اعترف لها بحبه في نهاية الفيلم.
في ظني أن الفيلم لأسباب تجارية أغفل المعنى الحقيقي للرواية التي تبدو في ظاهرها رواية عاطفية والتي هي في جوهرها – في رأيي – ليست فحسب رواية غارقة في الواقعية ولكنها أيضا رواية عن السياسة! أغفل الفيلم شخصية مهمة لا يكتمل معنى الرواية إلا بها وأقصد بها العاهرة سنية التي همّش السيناريو وجودها.
في الرواية يكتب إحسان تعليقا على مشهد سردي بديع يلتقي فيه سميحة مصادفة في أحد المحلات أثناء شرائها حاجيات الزفاف فتختار له رابطة عنق فيدفع ثمنها من مال سنية.. يقول إحسان “إن الطهر يختار والدنس يدفع!! إن الحب ينتقي والجسد يحمل العبء!! إن سميحة هي الفكرة وسنية هي المادة!!” يكتمل معنى الرواية بوجود شخصيات ثلاث في حياة صلاح: سميحة الفكرة، وسنية المادة، ودرية الواقع. إن صلاح في الرواية يبحث في وسادته الخالية عمن يملأ به حياته، ولأنه فشل – بسبب التقاليد والعادات الاجتماعية التقليدية – في الامتلاء بعالم الأفكار المثالية فإنه يغرق في عالم المادة قبل أن ينقذه الواقع.
كانت الوسادة الخالية هي كل ما خرج به من تجربة السجن بحسب الإشارة الساخرة التي ألقاها في وجه الزعيم. وهي التجربة التي نقلته ككاتب سياسي من الرؤية المثالية للرؤية الواقعية، والتي جعلته يدرك أن مناطحة السلطة الجديدة مباشرة بمقاله الذي كتب فيه عبارة “العصابة التي تحكم مصر” لن تجدي بغير السجن!
في الرواية يدين إحسان النظام الاجتماعي نفسه الذي هو الشرط الرئيسي لنمو النظام الاستبدادي. فحين يخطب صلاح درية يسأل نفسه إن كان قد سرقها من آخر مثلما سرق الطبيب فؤاد حبيبته! يدين المجتمع الذي يغض الطرف عن وجود عاهرات كسنية في حين أنه يعتبر الحب جريمة، الذي يتساهل مع علاقات الرجال غير الشرعية في حين أنه لا يتساهل أبدا مع مشاعر الحب بين شابين، المجتمع الذي يجبر الفتاة على الزواج وفق اختيارات لم تخترها، بل إنه يدين النظام الديني نفسه فهو حين يُلبس سميحة الدبلة الفضية يظن أنه قد تزوجها أمام الله فيكتشف أن عقود الزفاف القانونية بالنسبة للمجتمع أهم من أي عقود ارتباط روحية. علاقته بدرية كانت مبنية على الاحترام المتبادل في حين أن معنى الحب – وإن كان يتضمن الاحترام المتبادل – فإنه يتجاوزه لمعان أكبر. في الرواية قبلتان: قبلة حارة بين العاشقين رغم أنها قبلة بلا خبرة، وقبلة خبيرة بين الزوجين لكنها قبلة باردة، قبلة يقتلها الاحترام.
أدرك إحسان الذي فهم طبيعة الحكم الجديد بالرجوع إلى العبارة التي قالها لأحمد أبو الفتوح أن المسألة لم تكن في وجود الملك أو في وجود مجلس قيادة الثورة وإنما في الشروط الاجتماعية التي تسمح للملك أو لمجلس القيادة أن ينفرد بالحكم وأن يتحدث باسم الجماهير لاغيا لوجودها. لهذا فإن “أدب الفراش” الذي استغرق فيه إحسان أو أدب الجنس كان أدبا سياسيا بامتياز كُتب بوعي السياسي والمصلح الاجتماعي ولم يُكتب بوعي كاتب يبحث عن الشهرة. الفضائح الاجتماعية التي نشرها إحسان في رواياته كانت بمثابة التعبير الصادق عن الاحتجاج السياسي لكاتب لم يفلت من السياسة حتى نهاية عمره.
بعد سنوات قليلة يتصل الزعيم بإحسان ليلومه على كتابة قصص “البنات والصيف” لأنها كانت تعبر عن الخلل الأخلاقي عند الطبقة الجديدة التي خلقتها الثورة فيجيب إحسان “لم يتغير شيء، استبدلنا طبقة بأخرى وبقي الانحلال الخلقي!”، وهو الرد الذي لم يعجب الزعيم بالطبع، فتعمقت الفجوة بين السلطة السياسية ممثلة في ناصر وبين الوعي السياسي ممثل في إحسان.