أحمد أبو درويش
تطرح الرواية أسئلةً حول المصائر الإنسانية المشتركة، من خلال التقاطع الذي يحدث في مسيرة البطلين اللذين تجمعهما أمورًا مشتركة من بينها فرارهما من الحرب ومشاهد الدماء في بلديهما، ومحاولتهما التنفس من جديد كأنهما مولودين يزوران العالم للمرة الأولى.
الرواية صادرة في نسختها المصرية عن مكتبة “تنمية” للروائي الجزائري سعيد خطيبي، واختيرت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر في نسختها العربية للعام الحالي 2020.
يتجلى من الخط العام للسرد بأن الكاتب يبحث عن المصائر المشتركة لضحايا الحروب، والتي تكون أبرز تجلياتها في المصير المشترك لبطل الرواية الجزائري “سليم بركات”، وبطلتها البوسنية إيفانا، واللذين يفران من بلديهما مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، في حقبة امتلأت بالدم، ويتقابلان في “سلوفينيا” والتي تنعم حينها بالهدوء والنظام.
لكن وفي حين يظن القارئ بأن القدر من الممكن أن يبتسم للناجين من الحروب، يتفرق كل من سليم وإيفانا بشكل درامي، ومفاجئ، بل تكمن الصدمة في انتهاء الرواية بنسف كل يقين لأبطالها حول الحياة والمستقبل، فسليم الذي كان يتأهب للعودة لبلده رغم ما فيها من حروب خلال عشريتها السوداء وذلك للإطمئنان على والده وإكمال حلمه بتأسيس صحيفة، يواجه مصيرًا أسودًا بمقتل عمه، وصدمته الكبرى باكتشاف أن عمه المقتول لم يكن سوى أباه وأن أباه الذي مرض بفقد الذاكرة لم يكن سوى عمه!
تطرح الرواية أسئلة حول هوية البطل الذي يعاني أشد المعاناة من عدم وجود يقين كامل في حياته، حيث اكتشف الحقيقة بعد وفاة عمه/ أبيه الحقيقي، وفقد أباه بالتبني/ عمه لذاكرته! إلا أن يواجه في الختام من يخاله عدوًا لعائلته فيكتشف أنه خاله والذي يمنحه اليقين.
لم تواجه تلك الاهتزازات الكبرى “سليم” وحده، فجميع عائلته يواجهها المصير ذاته في البحث عن هويتهم الحقيقية فالعم أو الأب الحقيقي أحمد الدبكي، تمكن كاتب الرواية من تشكيك القارئ في علاقته بالثورة ضد الفرنسيين وهل كان ثائرًا بالفعل دفع من التضحيات الكثير، أم كان مجرد خائنا مزروعا بين الثوار! الأمر ذاته في خال سليم “الحاج لزرق” كثيرون يتحدثون أنه كان من زبانية الأمن الذين ساموا الثوار أشد العذاب بينما الاقتراب منه والغوص في الذكريات ينبئ بشئ آخر. بينما يظل ذاكرة الأسرة “الحاج إبراهيم” يعاني الزهايمر!
لم تمنح الرواية إجابة شافية للتسائل الذي يبدر على أذهان القراء، فهل يمنح سليم أبيه أو عمه “سي أحمد” المسامحة على ما فعله! ففي الوقت الذي يكشف فيه “الحاج بلزرق” أن أحمد الدبكي قتل “أم سليم” انتقاما منها ومن الثوار الذين أرغموه على الزواج منها، بعدما تسببت وشاياته في مقتل أبيها، يبحث سليم عن رواية أخرى تقول بأنها (أمه) انتحرت بإطلاق النار على نفسها بعد معاناتها مع الاكتئاب. لكن البطل في النهاية يترك ذلك كله للبحث عن صورة لأمه ليتأمل فيها ويحاول تجاوز التفكير. وكأن الاختيار هنا كان للبحث عن واقع جديد بعيدًا عن تيه أزمنة الحروب.
في المقابل، تعاني بطلة الرواية إيفانا من التيه والتخبط والإحباط، حيث تسافر باحثة عن وطن جديد ومستقبل واعد، بعيدًا عن فوهات البنادق ودانات المدافع في بلدها البوسنة والهرسك، فتتورط في جريمة قتل عن غير قصد في سلوفينيا، تعود على إثرها لبلادها تجر معها خيباتها سواء في العمل أو الحب والذي لم يكن سوى وهمًا، لتعود لأسرة دمرتها الحرب إما بمقتل أبيها أو بالاكتئاب الذي جرف عقل أختها وقلب أمها.
الرواية في مجملها جعلت كل من الشك في كل الثوابت، تيمتها الرئيسية، كما صدرت الإحباط كنهاية حتمية ستصل إليها كل المصائر. لكن الكاتب غزل كل ذلك بخيوط متشابكة، فقد صوّر عالم شخوصه بشكل متشابك ودائري، كأنهم يتراقصون على مسرح صغير، ليكشف في النهاية أن المصائر الإنسانية جميعها مشتركة، لكن الناجون من الحرب نجوا بأجسادهم فقط ولم ينجوا بصراعاتهم والتي يصدرونها للأجيال الجديدة.