محمد عفيفي (نقلا عن الدستور)
تعتبر “أمام العرش” من الروايات المختلفة التي كتبها نجيب محفوظ وصدرت عام 1983، ولن نتحدث هنا عن طبيعة الشكل الروائي لها أو أهميتها الأدبية بين ما كتب محفوظ، وإنما تناولنا لها سيأخذ شكلًا آخر، ومن منظور الدراسات التاريخية.
استلهم محفوظ هنا نموذج محكمة العالم الآخر من الأساطير الفرعونية، حيث نصب من أوزوريس الإله وإيزيس الإلهة قاضيين، يقوم كل زعيم مصري- من مينا إلى السادات- بعرض أعماله عليهما، وتتم عملية المحاكمة قبل مرورهما إلى جنة الخلد، وهنا يظهر ولع محفوظ “القومي المصري” بالحضارة المصرية القديمة، واعتباره إياها عمود الأساس.
وعلى الرغم من ولع محفوظ بسعد زغلول واعتباره زعيمه المفضل، وثورة 19 هي الثورة الشعبية الكبرى، فإن محفوظ- أو الآلهة- يعطي مساحة عريضة من الكلمات لعبد الناصر لشرح موقفه وإنجازاته في الثورة، وكما حظى سعد بإعجاب ومحبة أجداده من الملوك العظام، ينبري هنا رمسيس الثاني إعجابًا وتقديرًا بناصر: “كلانا يشع عظمة تملأ الوطن وتتجاوز حدوده، وكلانا جعل من هزيمته نصرًا فاق كل نصر”.
ولكن هذا لا يمنع محفوظ ابن القومية المصرية من توجيه النقد إلى سياسة ناصر العربية، ويأتي النقد على لسان أبو مصر المركزية مينا موحِّد القطرين، وهو نقد ذو دلالة مهمة: “لكن اهتمامك بالوحدة العربية فاق اهتمامك بالوحدة المصرية، فحتى اسم مصر الخالد شطبته بجرة قلم”. لكن نبرة الإعجاب تعود من جديد على لسان أبنوم الذي يقارن بين ثورته وثورة 23 يوليو، قائلًا: “اسمح لي أن أُحييك بوصفي أول ثائر من فقراء مصر، وإني لأشهد لك بأن الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل في عهدٍ بعد عهدي كما نعموا في عهدكم”، مؤكدًا في ذلك على بُعد العدالة الاجتماعية الذي يعتبر الإنجاز الحقيقي لثورة يوليو.
لكن محفوظ وفي مكرٍ جميل يوجه النقد الشديد إلى الهزائم العسكرية التي مُنى بها ناصر، ويأتي ذلك على لسان القائد الهمام تحتمس الثالث: “إنك لم تكن قائدًا ذا شأن بأي حالٍ من الأحوال”، وهنا ينضم الكثيرون إلى تحتمس في توجيه النقد لناصر، فيقول إمحوتب: “كان واجبك أن تتجنب الحروب، وأن تكف عن استفزاز الدول الكبرى”، وينضم الحكيم بتاح حتب أيضًا إلى قائمة نُقاد ناصر فى هذا الشأن.
ولا يقتصر نقد ناصر على الزعماء الأقدمين فحسب، بل يشارك في ذلك المحدثون، إذ يعتب سعد زغلول على ناصر أنه حاول محو اسمه من الوجود، وأنه اتهمه في الميثاق بأنه اعتلى الموجة الثورية في ثورة 1919، بل وتصل لغة العتاب مداها عندما يقول سعد مخاطبًا ناصر: “دعني أحدثك عن معنى الزعامة، الزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية”، ومع ذلك يرى سعد في ثورة 23 يوليو استكمالًا لثورة 1919، ولكن محفوظ وعلى لسان سعد زغلول يأخذ عليه غياب الديمقراطية: “كان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها، وأن تقيم حكمًا ديمقراطيًا رشيدًا، ولكن اندفاعك المضلل في الطريق الاستبدادي هو المسؤول عن جميع ما حل بحكمك من سلبيات ونكبات”.
ويدافع ناصر عن ذلك بضرورة الفترة الانتقالية من أجل تحقيق المطالب الثورية، لكن الزعيم مصطفى النحاس ينضم إلى قائمة المنتقدين لغياب الديمقراطية، رافضًا مقولة ناصر بالفترة الانتقالية، واصفًا إياها بأنها حجة ديكتاتورية، ويصل نقد النحاس- أو في الحقيقة محفوظ- مداه قائلًا: “تنمية القرية المصرية أهم من تبنِّي ثورات العالم، إن تشجيع البحث العلمي أهم من حملة اليمن، ومكافحة الأمية أهم من مكافحة الإمبريالية العالمية”.
لكن محفوظ وبعد هذا الكم من النقد الشديد يلجأ إلى نظرية الميزان في المحاكمة الإلهية، والمقارنة بين الإيجابيات والسلبيات، إذ تنبري إيزيس مدافعةً عن ابنها ناصر لأن “أعماله الجليلة تحتاج إلى جميع جدران المعابد لتسجيلها”، لكنها تعترف في نفس الوقت بأنها لا تستطيع الدفاع عن أخطائه.
لكن أوزوريس ينتصر في النهاية لناصر ويسمح له بالجلوس بين الخالدين.