مها ناجي
كلما أشاهد فيلم زوتوبيا مع أولادي ابتسم وأتذكر بحب واشتياق جدي العزيز، ففي أول مشهد من الفيلم الكرتوني الممتع تظهر بطلة الفيلم -وهي أرنبة صغيرة- تحلم بأن تكون شرطية على مسرح مدرستها لتختم المسرحية بجملة تظل ترددها طوال أحداث الفيلم وهي “هذه هي زوتوبيا.. حيث يمكن لأي شخص أن يصبح ما يريد! where anyone can be anything”.
وخلال مشاهدتي لهذا الفيلم تعود بي الذكريات دائما إلي بيت جدي حيث قضيت سنوات عمري الأولي -وهي الأكثر سعادة ومتعة حتى اليوم- عندما كان يناقشني أنا وأختي الكبيرة فيما نريد أن نصبح عندما نكبر ونحن نشاهد نشرة الأخبار.
“وزيرة عدل!” قالت أختي الكبيرة في فخر، ولكن جدي الحبيب رد قائلا: “وليه مش رئيسة جمهورية؟” لتلمع عيناي أنا وأختي ونحن نرى آفاق أحلامنا للمستقبل وهي تتسع لتشمل ما لا كان يخطر ببالنا ولا ببال أحد في الثمانينات من القرن الماضي في بيت مصري عادي.
ولكني أعيد التفكير دائما بأنه لم يكن بيت عادي، فمن سكنه لم يكن شخص عادي -في نظري وفي نظر الكثيرين ممن عرفوه وسمعوا عن سيرته الطيبة-، فجدي هو وزير العدل الأسبق عصام حسونة، هو من علمني قيم العدل والحق والمساواة من خلال معاملته لكل من حوله وحديثه المبسط والقريب إلى القلب.
هو من علمني أهمية القراءة والعلم فكان يستغل وقت الغداء المشترك لإقامة مسابقة معلومات ما بيني وبين أختي وبجانبه رزمة من فئة الربع جنيه لمكافأة صاحبة الإجابة الصحيحة، لننتقل بعدها إلى مكتبته للإطلاع على ما تعنيه الكلمات الجديدة التي ذكرها في موسوعة بريتانيكا العريقة. هو من علمني احترام المرأة وتقدير دورها من خلال حكاياته التي لا تنتهي عن جدتي وكفاحها معه وبطولتها خلال فترة أسره في غزة (والتي تحتاج إلى مقال آخر لسردها)، ومعاملته لها بمنتهى الود والاحترام والرومانسية بعد أكثر من أربعة عقود من زواجهما. وهو أيضا من علمني ضرورة أن أدافع عما أؤمن به وأن أفعل ما يمليه علي ضميري، وهو ما أحاول زرعه في أولادي اليوم عسى أن يتحلوا ولو بجزء من صفاته الجميلة.
قد تظنون إلى الآن أن المقال هو عن أهمية جدي الشخصية لي فقط، ولكن في ذكرى ميلاده أردت أن أكتب عنه حتى يتذكر المصريون أنه كان وما زال هناك أمثلة مشرفة نحكي لأولادنا عنها. فقد كان جدي العزيز مناصرا لحقوق المرأة في بيته -الذي سكنته أربعة بنات- وعلى المستوى العام بالرغم ما كلفه ذلك من انتقادات ومواجهات.
ففي عام 1966 قام باتخاذ قرار بإلغاء تنفيذ أحكام الطاعة جبرا ودافع عن قراره بمنتهى الحزم في جلسة مجلس الأمة التي اختتمت بوقوف الحاضرات احتراما له وعلى رأسهم السيدة جيهان السادات. ويتذكر حسونة دوافعه لهذا القرار في مذكراته قائلا: “كنت أرجو أن استصفى هذا القانون مما يشوبه من أحكام منسوبة ظلما للشريعة الإسلامية، برغم أنها تتجافى مع جوهر الدين، وتتنافى مع التفسير الصحيح لأحكامه، وكان الحكم الخاص بتنفيذ أحكام الطاعة جبرا بقوة الشرطة يؤرقنى أشد الأرق، ويمثل لي إهانة للشريعة، وامتهانا لكرامة المرأة، ولي أيضا كمواطن ووزيرا للعدل، وبرغم أننى قرأت كثيرا فى الشريعة وأنا أراجع هذا الحكم، واسترشدت بآراء رجال الدين وفقهاء القانون والشريعة، فإننى لم أنس للحظة واحدة أنني كوزير للعدل المسؤول عن اتخاذ القرار”.
وفي عام 1968 رفض حسونة طلب عبد الناصر بتشكيل تنظيم سري من القضاة مما له من تدخل خطير باستقلال القضاء وتم إقالته بعد ذلك وما تلا تلك الإقالة من أحداث عرفت بمذبحة القضاء عام 1969.
في ذكرى ميلاده أتذكر كل ما علمه لي ولمن حوله واترحم على من كان خير مثال للفكر المستنير والدفاع عن العدالة في زمن كادت أن تختفي فيه تلك المثل في وطننا الحبيب. كل سنة وحضرتك طيب في الجنة يا حبيبي.