1- لأن أرون سوركين كاتب استثنائى فى الدراما الأمريكية، فقد قدَّم عملا استثنائيا هو مسلسل «غرفة الأخبار» الذى حقَّق نجاحا كبيرا، وحصد عديدا من الجوائز، منها جائزة «إيمى»، وهى ما توازى أوسكار، لكن للأعمال التليفزيونية.
فى كل حلقة من حلقات المسلسل يمكنك أن تشاهد درسا حقيقيا فى التغطية الإعلامية، حتى فى أوقات الحروب، وتدرك كيف يتعامل الإعلام «المهنى» مع «مصادره»، ليتأكد من «معلومة» فى متن خبر كبير، بحثا عن «المصداقية».
فى أمريكا نفسها، إذا لم تكن تتمتَّع بهذه المصداقية فلن يتابعك سوى أصحاب الهوى، أو الهيستيريين، أو من تلبى احتياجاتهم الأيديولوجية وتتفق مع أفكارهم، لكن إذا أردت أن تكون «مصدقا» يمكن أن تكون مثل «وولتر كرونكايت»، المذيع الأمريكى الشهير، الذى قال عنه رئيس أمريكا ليندون جونسون: لو أننا فى حرب فسآخذ المعلومة من هذا الرجل، وحين توفّى قبل عدة أعوام كان العنوان الأبرز فى التغطية الإعلامية لوفاته هو: «موت الثقة».
فى إحدى حلقات «the newsroom»، يتابع البرنامج أنباء وفاة أحدهم، تعلن الشبكات الأخرى وفاته وفق مصدر من أقاربه، لكن البرنامج -عبر مصادره الموثوقة من داخل المستشفى- يؤكد أنه لم يتوفَّ بعد. تنتقل الأنظار إلى باقى المحطات التى تؤكد خبر الوفاة، وتحكى قصصا وتفاصيل، لكن البرنامج مُصرّ على أنه لم يمت حتى هذه اللحظة، بعد قليل تتحول الأنظار إلى البرنامج نفسه الذى يقدّم درسا مهنيا رائعا، ليثبت أنه لم يمت بعد، وحين يموت بالفعل يردّد المذيع العبارة التى علّقت فى أذهان كثيرين ممن تابعوا الحلقة، فيقول: «نحن نعرف خبر وفاة أحدهم من المستشفى، وليس من خلال أقاربه».
2- فى بوست موثَّق ومرتّب ومهنى لأقصى درجة حتى لتظن كاتبه متمرسا فى العمل الإعلامى، فضح الدكتور إبراهيم عبد الغنى، رئيس الفريق الطبى الذى تابع حالة النائب العامّ قبيل إعلان وفاته، التغطية غير المهنية التى انتهجتها وسائل الإعلام فى مصر، خصوصا الصحافة المطبوعة والمواقع الإلكترونية، حيث سرد الرجل وقائع ما عاشه بنفسه، وقارنه بما أسماه «كذب» و«فجور»، وأحيانا «عهر»، فى ما قرأه من تغطية الزملاء.
ما لم يقله أو يكتبه د.إبراهيم أن هناك قصورا مشابها شاب الإعلان عن معلومات لها علاقة بحالة النائب العامّ، مع تجهيل المصادر الطبية خوفا من المساءلة، وهو ما ساعد فى خلق هذه الحالة مما أسماه كذبا وفجورا، لكن ذلك لا يقارن بما كتب «كذبا» فى هذا الملف، وبحكم معرفتى ببعض الزملاء الذين كتبوا وأشار إليهم الرجل، يمكننى أن أقول إن كثيرا منهم يشهد له بالكفاءة، لكن ربما سقط فى فخ «السبق»، فاستعان بمصادر لم تكن على دراية كاملة بالأمر، فبنى قصته عليها، وهو أيضا ما يحتاج إلى مراجعة.
سيقول أحدهم: ولماذا تصدّق رواية الرجل، فلربما تكون كاذبة؟ وأقول إن هذا الرجل كان هو المصدر الرئيسى الذى يجب أن يعود إليه الجميع لإطلاق تصريحات أو معرفة معلومات، فى ما يتعلق بالنواحى الطبية، لكن أحدا لم يستعِن به، فكان ما كان.
3- بعدها بأيام، كنا على موعد مع تغطية أخرى غير مهنية، خضعت لأرقام غير حقيقية فى الهجمات الإرهابية بسيناء، وساعد فى خلق حالة البلبلة تأخر بيان القوات المسلحة، لكن شارك فى المهزلة وكالات أنباء كبيرة، مثل «الأسوشيتد برس»، وجمعت «سكاى نيوز» عدد المصابين والقتلى فى بادئ الأمر لتقدمهم بوصفهم قتلى، ثم كان البيان «المتأخر»، وكان الهجوم الكاسح على «الإعلام» الذى يقف فى قفص الاتهام وحيدا فى مثل هذه الأمور، ويدينه أحيانا أبناء المهنة نفسها، كأنهم يقدمون إعلاما مهنيا حقيقيا، وهو ما يجعلنا نتساءل: «لما كلكم مهنيين، أمَّال مين اللى بيعُك»؟!
وكان من تبعات الأمر إقرار قانون مكافحة الإرهاب فى جلسة «القانون متلقح ومؤجل لكنه يقر فى جلسة بمنتهى سوء إدارة الأزمة»، وما فيه مما اعترض عليه أهل المهنة، وتحديدا المادة 33 التى تقضى بحبس الصحفيين الذين ينشرون بيانات ومعلومات كاذبة تتعلق بالهجمات الإرهابية بعيدا عن بيانات الجهات الرسمية، التى تتأخر أصلا فى بياناتها لتلقى بالمواطن العادى فى أحضان إعلام «معادى» أو اجتهادات صحفية، أو ربما «كما يفهم» الحقيقة التى يريدون إخفاءها عنه.
لكن لنترك كل هذا جانبا، ونتحدث عن نقابة الصحفيين التى اعترضت على المادة، ولم تقدم بديلا لها، أو اقتراحا بالحل، فمخاوف النقابة قد يكون لها ما يبررها، لكن واقع الأمر أننا لم نشاهد تصرفا واحدا محترما من النقابة يتخذ ضد حزب «المفبركاتية» و«مروجى الشائعات»، بل والمحرضين أنفسهم بنشر أخبار على غرار اغتيال رئيس الجمهورية وتحريفه القرآن ووضع سورة باسم السيسى!
واقع الأمر أن النقابة لا تفعل أى شىء له علاقة بميثاق الشرف الصحفى، ولا شرط الضمير، ولا قادرة على عقاب المسيئين إلى المهنة، بل وغير قادرة على تقديم «حلول» حقيقية وبدائل مناسبة، ولم تتخذ أى «مبادرة» من شأنها إعادة الاحترام لهذه المهنة، فهل تراجع نفسها؟
4- الواقع يحتاج إلى مراجعات، والإعلام فى قفص الاتهام دائما، لأنه لم يعد إعلاما، وحين ينتصر للمهنية على المصالح والمواءمات السياسية، لحظتها فقط يمكن أن يخرج من فخ الهجوم عليه واعتباره غير وطنى.
نقلاً عن “التحرير”