فى جولة صحفية امتدت من عمان إلى رام الله إلى القدس الشرقية ذهبت، وأنا بطبيعة تركيبتى مفتون بجغرافيا العالم العربى وتاريخه، وأدَّعى أننى لم أترك بقعة عربية إلا وزرتها وتفاعلت معها من واقعها إلى ماضيها.
أعرف أنه ليس مفضلًا مهنيًّا أن يبوح الصحفى التليفزيونى بأسرار تحركه، لكن فى المجمل دخلت إلى مدينة القدس الشرقية مهرَّبًا عبر كثير من الحواجز، فى كل حاجز مخاطرة ومجازفة، أقلها أن يتم اعتقالي من قبل المحتل الإسرائيلى.
والقدس الشرقية كانت تحت الحكم الأردنى منذ عام 48 بعد انسحاب المحتل البريطانى من فسلطين، وظلت تحت إدارة الأردن حتى خسرناها ضمن ما خسرناه فى نكسة وهزيمة وخيبة 67.
والقدس الشرقية تمثّل الجانب الشرقى من مدينة القدس الكبيرة، لذلك سميت بـ«القدس الشرقية»، وهذا التقسيم جاء بعد هزيمة العرب فى حرب 48، وقسّمت القدس إلى جزءين، القدس الشرقية وبها الأغلبية المسلمة والمسيحية وكان تحت حكم الأردن، والقدس الغربية وكانت تحت الحكم الإسرائيلى.
وتبرز أهمية وتاريخية القدس الشرقية بسبب وجود البلدة القديمة، كما تُسمى، والتى بها أقدس الأمكان الدينية عند المسلمين، مثل المسجد الأقصى وحائط البراق، وعند المسيحيين مثل كنيسة القيامة، واليهود يكذبون بأن لديهم «حائط المبكى» الذى هو حائط البراق الذى ربط فيه النبى دابته «البراق» يوم أن جىء به من مكة إلى الأقصى فى رحلة الإسراء والمعراج.
والقدس ظلَّت وما زالت مرتكزًا للصراع العربى- الإسرائيلى منذ نكبة 48، ومرورًا بهزيمة 67 واحتلال الإسرائيليين للقدس الشرقية، وبعدها عام 81 أقر الكنيست الإسرائيلى قانون القدس عاصمة إسرائيل، لكن مجلس الأمن رد بقرارَين، 476 و478، يرفض ويعارض فيهما ما فعلته إسرائيل، ويؤكّد أن القدس الشرقية جزء من الأراضى الفلسطينية.
الإسرائيليون أقاموا وبنوا مقرات حكومتهم المستبدة فى القدس الغربية، لتكريث مبدأ الاحتلال، مثل مقر الكنيست، ومقر مجلس الوزراء، والجامعة العبرية، والمحكمة العليا، وحتى الاستاد الرياضى.
ولا توجد حدود أو بوابات بين القدس الشرقية والغربية، فلو ركبت المترو من القدس الشرقية ستجد نفسك تجوب المدينتَين.
هم بذلك ينتظرون اللحظة التى يضمون فيها المدينتَين كاملتين رغم أن سلطة الاحتلال تسيطر على القدس الشرقة كما تسيطر على القدس الغربية.
انتظرت 4 ساعات لموافقة المحتل على الدخول.. ورفعت حذائى فى وجههم ونمت.
قسوة أن تقع تحت الاحتلال ما أصعبها وأقساها تلك اللحظة التى تجبرك أن تقف فى مواجهة مع إسرائيلى يحتل وطنك ويحتلك، لتستأذنه بالدخول إلى أرضك، تقف على باب بيتك تنتظر السماح بالدخول من الذى احتلك واستعمرك، فلتأت اللغة العربية بأعمق مفرداتها لتعبّر عن هذا الإحساس المسكون بالذل والهوان.
هى إذن تلك اللحظة التى سمعتها كثيرًا من أشقائى الفلسطينيين، تلك اللحظة التى تتساوى فيها الحياة والموت، أنا رأيت هذه اللحظة لكن رأيت أن الحياة لا تتساوى مع الموت، بل الموت يصبح أكرم من تلك الحياة.
نظراتهم تخرج منها الأفاعى تبخّ سموم الحقد علينا كعرب، ولما عرفوا جنسيتى زاد الكره أكثر، لم يلمسوا جواز سفرى، فقط كان الذى بينى وبينهم تصريح للمرور، استخرجه الزملاء فى رام الله، مجرد ورقة صفراء سيضعون عليها أختامهم وفى النهاية سأبول عليها.
أربع ساعات ونصف الساعة وأنا أنتظر موافقة المحتل لدخول أرضى ووطنى، وبين الحين والآخر يأتونك ليقرؤوا إلى أين وصل استفزازك.
لم أجد مخرجًا سوى رفع حذائى على أعلى حافة المقعد المواجه لباب دخولهم ونمت، سلّمت رأسى وروحى لكوابيس علّها تكون أرحم من ذلك الكابوس الذى أعيشه.
قبل الأذان ومدفع الإفطار سمحوا لنا بالمرور، واستقبلتنى حيفا بجبالها الأسيرة، ثم بياض رام الله وقد أحيطت بعدد كبير من المستوطنات التى سجنتها، كل شىء هنا مسجون ومحاط بأسوار.
وقبل الدخول إلى الفندق لأستريح، ذهبت إلى قبر محمود درويش وسط مجسم لقريته التى ولد بها «قرية البروة» فى الجليل.
ورن فى أذنى شعر للمحتل «نعم قتلتنى ونسيت مثلك أن أموت».
ثم ذهبت إلى قبر أبو عمار، ياسر عرفات، قرأت فاتحتَين على القبرَين وبعض الأدعية، وسقطت دمعات كثيرة على وجعى، وأدركت أن القضية الفلسطينية ستبقى محروسة بالكلمة والشعر والبندقية.
كانت رام الله محاطة بحزام ناسف، عبارة عن مستوطنات، وكلها بنيت فى مناطق مرتفعة «مكابيم أب/ كفار روث/ منورة/ شلتا/ حشمو نئيم/ كريات سيفر» وهناك أيضَا «طلمون بيت حورون/ جبعات زئيف/ بيت إييل/ بسجوت/ كوخاف يعقوب/ عطروت».
وهناك غير هذه الأسماء العشرات، وهذه المستوطنات هى عبارة عن مدن صغير بناها المحتل على أحدث طريقة، ليجذب الصهاينة من كل مكان.
وفى المحصلة أصابنى الإحباط، أى حل يمكن أن يزيل هذه السرطانات؟
مستحيل!.. هناك مدن إسرائيلية كبيرة وصهاينة وحياة!.. من الصعب أن تكون هناك قوة تجبرهم على المغادرة أو ترك مستطوناتهم، خصوصًا ونحن غارقون وسط انقسامنا وتفتتنا العربى.
كيف أستكين وبينى وبين القدس عشرون دقيقة؟
كيف يهدأ مارد الشوق واللهفة فى داخلى وقد عشت أتألم بفراقها وسبيها وهى على مرمى حجر؟
عرفت بعد اجتماعى بزملائى فى رام الله أن التصريح الذى دخلت به لا يسمح لى بدخول القدس، وأنها تحتاج إلى تصريح من سلطات الاحتلال، وهو صعب جدًّا، لا يمكن لتلك اللهفة أن تهدأ حتى لو غامرت بحياتى، وصلنا إلى طريقة للدخول إليها «أحتفظ بتفاصيلها» وبعد معاناة وتوتر يضعك فى مواجهة الموت دخلنا إلى القدس الشرقية.
ولأول مرة أكون فى مواجهة مع أسوارها العتيقة، ومن هنا رحت أكتب هذا النص التليفزيونى والذى يختصر مشاهدات صحفى عربى أصبح وجهًا لوجه مع معشوقته القدس لأول مرة.
جئت وفى ذاكرتى مقولة التاريخ بأن القدسَ والأرضَ لنا، حين وصلت قالت الجغرافيا «إن الأرض قد سُرقت».
فى كل طريق إليها حاجزٌ وجنودٌ غلاظ، دخلتها مُهربًا عبر زنازينَ كثيرة على شكل حواجز، والحُجة أننى لا أملك تصريحًا للدخول، فلأُجرب إذن ألم أن أكونَ تحت الاحتلال.
في القدس الكلُ يختلفُ مع الكل والجميع يتفقون على قداستها.
وصلت، نظرت فوجدت أن «القدس تقبل مَن أتاها كافرًا أو مؤمنًا، وكيف لى بالدخول بعد معاناة الوصول، والقدس قد حزموها بسور من خلفه سور،
انتظرت مَن يقول لى ادخلها من أى باب شِئت، وأحدُ لم يقل، فدخلت من باب الخليل».
كل شيء كان محتلًّا، الشوارع، الأزقة، الميادين، كل الأماكن ركبها الغرباء، دنّسوا وداسوا على طهارة مَن ساروا هنا من الأنبياء والصالحين.
تقول الأغنية إن القدس مدينة السلام، وتقول روايات التاريخ إن القدس منذ نشأتها وقدرُها أنها كانت مطمعًا للغزاة والحاقدين، وإن المقدسيين على أرضهم غرباء.
ومن باب الخليل إلى باب العامود، أردنا تغيير الرؤية، ولكل رؤية قراءة
وكل قراءة وجدناها تؤدّى إلى مزيد من الألم، كلما ابتعدنا عن بوابة باب العامود الكبيرة تهب علينا روائح، محملة بنفحات الأقصى، وفى الوجدان قول الله فى القرآن، سبحان الذي أسرى.. وتعلو رهبة المشتاق حين يصل إلى المراد.
قبة الصخرى أول ما ترى فى ساحة الأقصى بل وفى القدس
حارسة المكان هى (بناها عبد الملك بن مروان عان 685م، أى عمرها الآن 1330 عامًا)، وهى بناء مثمّن الأضلاع له أربعة أبواب أسفله الصخرة الشريفة التى وقف عليها النبى وعرج إلى السماء).
المسجد الأقصى ليس كما كنا نعتقد مسجدًا واحدًا بل سبعة مساجد أشهرها المسجد القبلى ذو القبة الرصاصية وأول مَن بناه الخليفة عمر بن الخطاب ثم أعاد بناءه الخليفة عبد الملك بن مروان.
مساحة الأقصى كلها 144 دونمًا تحوى سبعة مساجد و14 قبة أشهرها قبة البراق.
وجاءت لحظة مغادرة القدس، قلت باكيًا وداعًا فهمست لى الأسوار
«لا تبكى أيها العربى، وأعلم أنه فى القدس من فى القدس، لكن لا أرى فى القدس إلا أنت».
إلى لقاء يا قدس تكونين فيه محررة.
نقلاً عن “التحرير”