«لكل ظاهر باطن على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه وما خبث ظاهره خبث باطنه».. لا يختلف الأمر كثيراً فيما قاله على بن أبى طالب (رضى الله عنه) عن واقعنا الحالى بعد حملة من الماضى ضد الصحافة وحرية الرأى والتعبير تحت يافطة «المصلحة الوطنية» فهذه المصلحة يتم تعريفها وفق الهوى مع إطلاق نيرانى ممتد ومتعدد على عدة جبهات ليست بريئة من التوجيه أو الإيعاز، فهذه الأصوات التى دفعتها الصحافة إلى صدارة الصورة المصرية هى نفسها التى تعلو أصواتها لذبح هذه الصحافة على مقصلة مسماة من لدنهم «الوطنية» ووطنيتهم تلك خبيثة المقصد فى حين أن الظاهر «نبل وانتماء وحرص وإيثار»، وهو أن يتنازل الجميع عن كل شىء من أجل أن يحيا الوطن، هذه الحياة التى يرونها للوطن هى انعكاس فقط لتصورات جاهزة عن السيطرة والتكريس لأوضاع الـ«نعم»، «نعم» على كل شىء، «نعم» مغموسة فى العواطف والشعارات، «نعم» لا تعرف النقد أو المراجعة أو الاختلاف، «نعم» تكره الحريات وتنتصر للكراهية، «نعم» تسقط معها أى كرامة، «نعم» لا ترى المساواة والعدل والحق، «نعم» طائعة طيعة مرنة تتشكل حسبما يريدون، «نعم» تلك لم تصنع شيئاً فى سجلات التاريخ بل أسقطت من حاول فرضها على شعبه، «نعم» لم تفد مبارك وغيره من الطغاة.. ««نعم» لم تدفع وطناً إلى رحابة الحضارة والرفاهية، «نعم» لم تدرك المستقبل بل تدرك فقط الحاضر لتسكنه وتصنعه على عينها فلا يتقدم أو يتطور بل يعيش فى وهم الغد دون أن يبارح اليوم، «نعم» حركة فى المكان، «نعم» معوجة شائهة سخيفة باهتة لأنها بنيت على الخداع، «نعم» لا تحمى أرضاً ولا نظاماً ولا تنفع فى زماننا هذا. إذا ساقتك عيناك إلى «استراتيجيات التحكم فى الشعوب» لـ«تشومسكى» فقطعاً ستضرب كفاً بكف، فالطريقة القديمة تمارَس بطريقة ما تشير إلى إلحاح ورغبة أكيدة فى أن تسوق الناس بلا أى ضجيج، فهذا الضجيج من كتاب الأقلام وأحبار الصحف وهواء الفضائيات كان مطلوباً من زمن قريب لكن صلاحيته انتهت وبات ماضوياً مضراً يشوه الواقع ويخالف الهدف وينال من المسعى، فإن لم يكن مدجناً فهو مارق يرتقى إلى مراتب الخونة والعملاء ومن الواجب تطبيق الحدود عليه، حدود التسلط والقهر بقوانين، فلتكن قوانين مكافحة الصحافة، فلتكن قوانين مجابهة الإعلام، فلتكن قوانين مقاومة المعرفة، فلتكن قوانين كراهية النقد، فلتكن قوانين ارتضيناها لنكمل عنقود الاستغلال للعواطف العامة ووضع الأمر فى ميزان الكفتين «رضا فقط بالواقع كما هو أو قبول بأن تصبح خائناً إلى أن يثبت العكس» وفى الأخيرة محاكم التفتيش جاهزة وبعض قضاتها يحملون شارات رسمية والبعض الآخر حصل عليها بالالتحاق المدنى الطوعى إيماناً بصفات العبيد!
العواطف هى طريقنا إلى الغد فلا تحكم على أمورك إلا من خلالها، فعطل ملكة التفكير وأعطِ عقلك إجازة ولا تلجأ للنقد فهو رجس يوردك موارد شياطين المحروسة، هؤلاء الشياطين الذين يريدون لك ولغيرك أن تنسحب من دنيا المخاوف والكراهية والانفعالات والصخب والقطيع، هؤلاء يريدون لك أن ترى بعين المصلحة فى حين أن عين القلب أسهل وأسلس وأقرب إلى راحة البال، هؤلاء الشياطين من بينهم الصحفيون والإعلاميون ومن يمسك قلماً ومن يفكر دون وصاية أو خوف أو وجل من السلطة، أرى بالطبع أن من بين هؤلاء بالتأكيد خطائين ومندفعين ومتحمسين ومعوجين، لكنهم مثلكم تماماً من بينهم الصالح ومن بينهم الطالح، والتعميم إذا استهدفهم لن يكون الغرض الإصلاح بل الغرض التركيع والإنهاء لتناسب المسعى فتتحول «الإدارة العامة للصحافة والإعلام» وتتبع أحدهم ممن ينتمون إلى دواوين البيروقراطية «بتوع العواطف مش العقل».
«محلب» ومن وضع النص فى قانون مكافحة الإرهاب، هؤلاء من مدرسة «حاضر يا فندم»، «دول ولاد مبارك وصنيعته»، يجهل هؤلاء -لأنهم لم يكملوا تعليمهم فى مدارس الواقع- أن مبارك نفسه بسلطانه وأجهزته ومؤسساته وأعوامه الثلاثين لم يستطع أن ينتصر فى معاركه ضد الصحافة وسقطت كل قوانينه سيئة السمعة بل كانت وقوداً وحطباً لإسقاطه. القيمة لا نختلف عليها، حرص المجتمع على الدقة والمعايير المهنية نتفق عليها جميعاً، لكنهم فيما يبدو يريدون أن نبدأ المباريات دائماً دون أن نخطط الملعب، فى حين أن الضرورة تقتضى أن نهيئ الأجواء والسبل إلى التنظيم لأنه اللبنة الأولى للوصول إلى غاية حماية المجتمع من أى ممارسة تضره.
يظنون أن الإعلام الساكت هو إكسير الحياة للاستدامة والسيطرة رغم أن الإعلام الحر هو الدواء لتمكين المجتمع والالتفاف حول النيّات الصادقة للبناء والتطور، القانون لا تحترمه الدولة فى حين تصمم على فرضه على المواطنين من زاوية مصلحتها وأغراضها وليس صالح المجتمع والانتصار لحقوقه، ما خبث لن يأتى إلا بالخبيث والصلاح صلاح إذا خلصت النوايا، الصحافة والإعلام المصرى لديهما تاريخ من النضال من لا يكلف نفسه قراءته سيجلس حتماً فى منزله يعض على نواجذه لأنه لم يحترمهما وظن للحظة أنه يمكن هزيمتهما، أخطر ما فى المشهد الحالى أن أبواق التدنى وضعت وسائل الإعلام فى إطار لم يحدث فى التاريخ المصرى الحديث «الاتهام بالخيانة» فى حين أن بعضاً من تلك الأبواق كانت دائماً لساناً لأى سلطة كانت، المشهد المصرى منذر بكارثة «تخيل.. كراهية وغضب وقتل وإرهاب واستقطاب وتصنيف وتشكك وغياب للعقل وتجاهل للحكمة وتغييب للمحاسبة» هل هذه الخلطة تبنى وطناً أو تصنع مستقبلاً.. اللهم اهدنا سبيل الرشد وامنح صناع القرار الحكمة لأننا سندفع جميعاً الثمن.
وأخيراً.. رسالة إلى من وضعوا مواد استهداف الصحافة أو من استهدفوا الصحافة: «خالص لعناتى»!!
نقلًا عن “جريدة الوطن”