نقلا عن نشرة مهرجان الجونة
أندرو محسن
في إطار مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لمهرجان الجونة يُعرض الفيلم الفلسطيني “200 متر” أول الأفلام الطويلة للمخرج أمين نايفه، الذي كتب له السيناريو أيضًا.
تدور أحداث الفيلم داخل فلسطين حيث نتابع مصطفى (علي سليمان) الذي يعيش بمعزل عن زوجته وأبنائه بسبب الجدار العازل الذي بنته دولة الاحتلال. بينما المسافة بين البيتين هي 200 متر فقط، فإن مصطفى يضطر لخوض رحلة شديدة الصعوبة حتى يتجاوز الجدار بسبب انتهاء تصريح دخوله الرسمي.
يؤسس المخرج في البداية لأمرين مهمين. الأول هو الشخصيات والعلاقات بينها، فما يفصل بين الزوج والزوجة ليس المادة أو العاطفة، بل هذا الجدار الذي يؤثر بالتالي على شكل العلاقة بينهما وبين الأب وأطفاله.
الأمر الثاني هو تأسيس لمفهوم وطبيعة الجدار العازل، إذ قد يظن البعض أن الأمر أشبه بالحدود على الصحراء، بينما في حقيقة الأمر هو أشبه بجدار يقطع شارعًا رئيسيًا ليفصل بين البنايات على جانبي الشارع، وهو ما يؤكد عليه المخرج بصريًا عن طريق عادة البطل اليومية بإضاءة وإطفاء مصباح بيته المواجه لبيت زوجته خلف الجدار، كتحية أخيرة لأطفاله قبل أن يناموا.
لا يمكن النظر إلى هذا العمل بمعزل عن الفيلم القصير السابق للمخرج “العبور”، والذي يلعب فيه الجدار أيضًا دورًا رئيسيًا إذ قدم الفيلم القصير محاولة مجموعة من الشباب للعبور لزيارة أسرتهم في الجانب الآخر، والصعوبة التي واجهتهم لإتمام هذه الخطوة من خلال نقطة التفتيش، مع التركيز على الجانب الإنساني في القصة، إذ أن هذا الجدار يفرّق الكثير من الأسر ويجعل زيارة شخص على مسافة قريبة إجراءً صعبًا.
في “200 متر” يأخذ نايفه الأمر لمستوى أكبر، إذ لم تنجح محاولات استعطاف جندي نقطة التفتيش في السماح لمصطفى بالعبور، وبالتالي يلجأ لأحد المهربين الذين يأخذون مبلغًا كبيرًا مقابل هذه الرحلة القصيرة.
بينما تركز الأفلام التي تعتمد على رحلة في طريق طويل على التغيرات التي تمر بها شخصية البطل منذ بداية الرحلة وحتى نهايتها، يركز نايفه على الرحلة نفسها، ولهذا لم يهتم كثيرًا بمنح العمق لبقية الشخصيات الأخرى التي مر بها البطل في أثناء الرحلة، بل ولا يوجد تغيرًا وقع لشخصية البطل نفسها، بقدر ما اهتم بعرض نماذج مختلفة للناس التي تمر يوميًا بمعاناة عبور هذا الجدار.
وحتى يُدخل المُشاهد في التوحد مع البطل في رحلته، فإنه عرّفنا مبكرًا على عقوبة عبور الجدار بشكل شرعي، وهي غرامة 10 آلاف شيكل ومنع التصريح بالدخول مدى الحياة، كما ورد على لسان إحدى الشخصيات.
وكأن مشقة عبور الجدار وحدها لم تكفِ نايفه، فقرر أن يضيف المزيد من العناصر الصعبة في قصته لتصبح أكثر تشويقًا للمشاهد، وأكثر إنسانية أيضًا، فالبطل لا يحاول عبور الجدار فقط لزيارة أسرته ولكن لأن ابنه مريض في المستشفى، ولهذا فهو في عجلة من أمره، والركاب ليسوا جميعًا فلسطينيين بل هناك مخرجة ألمانية مهتمة بتصوير الرحلة كلها لتصنع عنها فيلمًا مما يزيد من حالة القلق بين الركاب.
لكنه في الوقت نفسه يختار النهار لتصوير رحلته، قد يكون الليل هو الأكثر مناسبة لإضافة المزيد من التشويق، ولكن المشاهد النهارية وسط الطبيعة الجميلة لفلسطين منحت بعدًا آخر للحالة التي يبنيها المخرج، إذ يبدو الأمر كأنه رحلة تقليدية يومية في إحدى طرق السفر، بينما وجود جدار الاحتلال جعل هذه الرحلة مريرة جدًا.
لا يدخل الفيلم في الكثير من اللحظات العاطفية المبتذلة لاستعطاف المشاهد، فمعاناة الفلسطينيين معروفة، لكنه هنا يستعرض جانبًا محددًا من هذه المعاناة ولا يخرج عنه حتى نهاية الفيلم، حتى صعوبة الحصول على عمل بالنسبة للبطل لم تعد هي المشكلة الرئيسية التي نتابعها، بل كيفية التغلب على هذا الجدار العازل.
“200 متر” هو عمل أول مميز، وراؤه مخرج يدرك كيفية صناعة وتأسيس حالة سينمائية متماسكة، بها مزيج متزن من العناصر الجماهيرية والفنية.