منذ اللحظات الأولى من الإعلان عنها، أثارت الرواية الأحدث للكاتب الصحفي الكبير والروائي إبراهيم عيسى، والصادرة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، تحت عنوان “كل الشهور يوليو”، جدلا واسعا في الأوساط الثقافية والسياسية، بداية من العنوان ووصولا لما تتناوله الرواية من فترة زمنية حرجة في تاريخ مصر الحديث، وما تطرحه من تساؤلات عن ثورة يوليو ومجلس قيادة الثورة وما آلت إليه البلاد بعد إسقاط الملكية.
وفي حوار خاص أجراه الصحفي مصطفى عبيد بصحيفة “العرب” في عددها الصادر اليوم الخميس 29 أكتوبر، يحكي “عيسى” عن كواليس تحضيره لروايته الجديدة، وأبرز الحقائق التي تناولتها عن ثورة يوليو، وكيف مزج في “كل الشهور يوليو” بين الوقائع الحقيقية والتخييل، وغيرها من التفاصيل، التي نرصدها في التصريحات التالية:
1- هناك العديد من الكتابات التي تدعي أنها تاريخية، وربما تضم العديد من الوثائق والشهادات، لكنها في حقيقة الأمر تقدم جانبا مما جرى وليس ما حدث بالفعل، وأعتقد أن تاريخ العربي بل وتاريخ العالم بحاجة إلى إعادة كتابته بشكل مجرد.
2- أرى أن الرواية هي أفضل وعاء لإعادة قراءة التاريخ، وكسر المُسلمات، ونقد الشهادات المبنية من أيديولوجيات خاصة، والوصول إلى الجانب الإنساني بما يحمله من ضعف، فالأبطال ليسوا أبطالا إلى الأبد، كما أن الأشرار أو من يعتبرهم الناس أشرارا قد يحملون في بعض جوانبهم نقاطا إنسانية مضيئة.
3- يمكن أن أشبه كاتب الرواية التاريخية بالقاضي، الذي تعرض عليه جميع الشهادات والوقائع، ليقوم هو بتحليلها ونقدها واستبعاد ما يتناقض مع العقل، وإعادة فرز الحكايات وعرض الجدير منها مرة أخرى، وأعتقد أن المهمة الأكبر للكاتب هو إنقاذ التاريخ من العواطف.
4- أحاول دائما أن أتعامل كمحقق جنائي أمام قراءتي للتاريخ، وأضع كل معلومة أو حدث أمام معيار وحيد هو الواقعية، كما أن الصرامة التي تحكم كتاباتي تجعلني دائما أحاول الانتصار للحقيقة، حتى وإن جاء ذلك على حساب التخييل والحكايات الجذابة والعاطفية.
5- لقد أفسدتنا العواطف، جرجرتنا بعيدا عن الحقيقة، دفعتنا إلى التيه بين ركام الأكاذيب وأكوام القصص المختلقة، ففقدنا الماضي ولم نُلمّ بالحاضر وظلّت سبلنا نحو المستقبل.
6- الرواية الواقعية أصبحت منطلقا للرواية العربية الحديثة، فقد استطاع نجيب محفوظ أن يصل للعالمية من خلال تحويله لأحداث واقعية وشخصيات وشهادات حقيقية لأعمال روائية مثلما فعل في “الكرنك” و”اللص والكلاب”.
7- في “كل الشهور يوليو”، قمت بدراسة كل شخصية على حدة، ثم حاولت إعادة رسمها، لأقدم جوانب قد لا تكون معروفة لدى العامة، مثل ولع اللواء محمد نجيب قائد مجلس قيادة الثورة غير المنقطع بالحكايات لكل شخص يقابله، أو ميل السادات الدائم لامتصاص غضب أي شخص والحديث معه وكأنه مؤيد لما يقول، أو الصمت المريب والدائم لعبد الناصر، وما تضمنه كل تفصيلة من دلالات للقارئ.
8- كتابتي لهذه الرواية جاءت إيمانا بتاريخ ثورة يوليو ودورها في تغيير وجه مصر، وامتداد أثرها إلى العالم العربي والإفريقي، مثل كثير من الأحداث الهامة في تاريخنا المعاصر الذي لم يُكتب بعدُ. وأعتقد أن أغلبية ما قدمته الكتابات التاريخية لا تُرضي شغف القارئ ولا تُقدم صورة متكاملة لما حدث، وكيف حدث.
9- لم أود سوى استهداف الحقيقة، فالرواية الأدبية لها وظائف كثيرة مثل المتعة وشحذ العقول وإثارت التساؤلات، لكن الأهم هو الإنصاف وإعادة كتابة التاريخ بعيدا عن العواطف.
10- الكاتب يعيش عدة مرات، مرة في حياته الطبيعية بانتصاراتها وانكساراتها، ومرات أخرى في كل رواية يكتبها، خاصة إذا كانت رواية تاريخية جرت أحداثها في الحقيقة ورأى الناس شخوصها الحقيقيين.
11- الكتابة الروائية التاريخية تحوّل صاحبها إلى محلل نفسي، مهمته إعادة قراءة سمات كل شخص، والتعرف على دوافع كل إنسان في اتباع سلوك ما في وقت ما.
12- مقولة “التاريخ يكتبه المنتصرون” حقيقية، وما بقي لنا باعتباره تاريخا هو نصف الحقيقة، وأظن أننا بحاجة إلى غربلة الوقائع والأحداث المروية ووضع معايير موضوعية لترجيح روايات عن أخرى.