قديمًا قالوا إن للمرء نصيبًا من اسمه، أما بالنسبة لمحمد المنسي قنديل، فيبدو أنه اختار أن يؤْثِر كتابتَه بالنصيب الموعود، فجعلها تستلهم اسمه لتصنع طريقتها الخاصة، فتركيبة الاسم العجيبة المميزة تجعله عصيًّا على النسيان، تمامًا مثل كتابة المنسي قنديل؛ فدائمًا ما تكون البداية سلسة بسيطة -كما اسم محمد- تسحبكَ بيُسر لمجرى الأحداث، ثم تُفضي بك لأواسط الرواية، حيث الدهشة والتحولات غير المتوقعة –مثلها مثل لقب المنسي- حتى تحيلكَ إلى نهايةٍ تُضيء معنىً ما بداخلك– مثلما تفعل كلمة قنديل المضيئة في ذاتها.
وربما تُعَد رواية “يوم غائم في البر الغربي” مثالًا واضحًا على هذه السمة في أدب المنسي؛ ببدايتها التي تدفع القارئ بسلاسةٍ أخاذة لقلب الحدث، حيث الأم التي تعبُر بابنتها عائشة إلى الضفة الأخرى من نهر النيل، وصولًا لصانع الوشوم، لكي ترسم على رسغ ابنتها وشم الصليب وتزعم بأنها فتاة تنصَّرَت وهربَت من ذويها، وذلك تمهيدًا لإخفائها في مدرسة للراهبات هربًا من تحرش العم؛ ثم أواسطها التي تصطحب القارئ في نزهة تاريخية مدهشة، سابحًا في تاريخ مصر القريب والبعيد، إذ تلتقي عائشة بالمندوب السامي البريطاني اللورد كرومر، كما بهوارد كارتر مكتشف مقبرة توت عنخ آمون، بوصفهما شخصيتين روائيتين تتقاطع مع مصيرها وتحوُّلات حياتها، ثم تغوص الرواية بقارئها في عمق الإدهاش أكثر فأكثر، إذ تستدعي إلى الحياة ليس فقط الزعيم مصطفى كامل والمثّال محمود مختار، بل أيضًا الفرعون إخناتون ووريثه توت عنخ آمون، وتصنع منهم جميعًا شخصياتٍ روائية تنبض بالحياة. هكذا يفعل المنسي بقارئه مُستلهِمًا تركيبة اسمه المميزة، قبل أن يمنحه الإضاءة الأخيرة الأشبه بقنديل، حيث يحمل كارتر مصباحه الكهربائي ويمد به يده داخل مقبرة توت عنخ آمون، لكي يُهدي العالم اكتشافه الأهم على الإطلاق.
ثمة سمة أخرى تميز الرواية قد لا نجدها في سائر الروايات، هي طبيعة الراوي الذي يسرد أكثر مقاطع الرواية؛ فالسارد العليم هنا ذو طبيعة مثيرة للاهتمام، خاصة حين يبتعد تمامًا عن ذهن البطلة –عائشة- ويشرع في وصف العالم الروائي من مسافة بعيدة وزاوية رؤية مفتوحة بدرجة معتبَرة، فنجده ينظر لعالم الرواية من منظور كونيّ، ويصفها بنبرة أسطوريَّة تُؤنسِن المخلوقات والجمادات، وتجعل منها شخصياتٍ روائية تؤثِّر في الأحداث وتتأثر بها؛ كأن يتعامل مع الذئاب كشخصيات ذات إرادة ووعي وتدبير، تحرس المقابر وتحمي البطلة وتعاقب العم، أو مثلما يصف النيل الأزرق بالرعونة والأبيض بالحكمة؛ ها هو ينتقل من وعي عائشة لكي يصف النيل وقت الفيضان:
“ينحدر من تلال إفريقيا البعيدة، مَهيبًا كملِك، لا يأبه بالغابات الكثيفة، ولا بحُرقة الصحراء الممتدة، … ويمضي متفردًا مثل شاعر حزين وسط مجاهل الصحراء، لا توقفه الهضاب ولا كثبان الرمال ولا جبال من حجر الصوان، … ويتمهل ليلتقط أنفاسه قبل أن يقتحم شلالات بيت العبد والمعفور والحارك، … لا يحيط به إلا جلاميد حجرية داكنة، تُشاركه أسرار الأبدية، ويحرص النهر بدوره على ألا يمحو ما عليها من نقوش وجعارين وخراطيش، يندفع وهو متقلب المزاج، حاملًا طمي الخلق الأول…“
هذا المنظور الكوني وهذه النظرة الشمولية والنبرة الشعرية المتلألئة، هي إحدى سمات المنسي قنديل، الذي يصفه القاص الكبير محمد المخزنجي بـ “صاحب واحدٍ من أعذب الأساليب العربية وأنصعها “، وهي سمة أساسية في الأسلوب السردي لمحمد المنسي قنديل، تتسق تمامًا مع انشغاله الدائم بفكرة الارتحال؛ ليس النهر فقط مَن يمضي في رحلته مواجهًا الظروف ومتحديًا العقبات، بل إن عائشة أيضًا تفعل المثل، كما هوارد كارتر، ومحمود مختار، بل وإخناتون وتوت عنخ آمون، والسارد مثله مثل شخصيات الرواية –بما في ذلك النهر- يرتحل عبر الزمان والمكان، عبر التاريخ والجغرافيا، لكي يحكي حكاية المنسي الطويلة المدهشة؛ الحكاية التي تنفخ الروح ثانيةً في المصريين كما أراد لهم محمود مختار، تستنهض إباءهم وعزيمتهم كما حاول مصطفى كامل، وتفتح لهم آفاقًا جديدة لا يتصوَّرونها ممكنة كما فعل إخناتون، بل وتدفعهم إلى المقاومة، إلى المثابرة والاستمرار، مثلما يفعل النيل منذ أبد الدهر.