محمد غنيمة
يشغلني التاريخ، أراه يتجسد أمامي، لا أنفك من الحديث معه، يخاطبني كإنسان يشعر بالأسى من هول ما يلاقيه، يتجرع ألما وحسرة ونحن في منأى عنه، فتنزوي أفكاره وتخر الأحداث تتكرر أمامنا دونما جديد، وأتساءل هل تتكرر الأحداث؟ أم نحن من هيئنا للتاريخ نفس الظروف؟ فنجعله يتضور تكررا، ويتخلى عن إبداعه ويتخذ من أحداثه الرتيبة ديدن الإعادة دونما عناء. هل آن أوان الدخول إلى أعماق التاريخ بأصعب وأضعف لحظاته؟ هل لنا من قراءة جديدة للتاريخ؟ هل آن الأوان أن نواجه أنفسنا بما علمه التاريخ لنا؟
هذه الأسئلة المركبة التي تأتني دوما ما أجدها لسان حال الروائي الدكتور محمد المنسي قنديل.
عند اقتنائك لأي عمل من أعمال المنسي قنديل الروائية، تعلم جيدا كم يحب هذا الرجل موطنه وتاريخه، يكتب بمنهج الروائي لكنه يتسلل بكتاباته إلى أعمق نقاط التاريخ، يحللها بمنظوره ثم يفند لك كم أثرت هذه الأحداث في تكوين الهوية المصرية، “الهوية” التي باتت كلمة سهلة النطق؛ ولكنها بعيدة الفهم.
يبني معظم الروائيين أحداث قصصهم على التاريخ، يستندون إليه لإخراج عمل يطلق عليه رواية تاريخية أما المنسي قنديل فشيء آخر، فالتاريخ عند قنديل ليس استنادا بل معالجة- أو بكلمات أخرى- يحاول المنسي قنديل تكملة الحلقات المفرغة والغائمة في التاريخ المصري، يحاول أن يكمل ما أغفله التاريخ الرسمي، ليدون لنا التاريخ الإنساني القائم على البشر وعلاقتهم بالأحداث..
ولأكون أكثر إيضاحا؛ لعل الحظ قد أتاك وقرأت رائعته (كتيبة سوداء)، هذه الرواية المبنية على أحداث حقيقة في عصر محمد سعيد باشا، وهي ذهاب كتيبة مصرية سودانية سرا لحرب المكسيك، المصادر في هذه الواقعة لا تعدو أكثر من كتاب إحصائي للأمير عمر طوسون بعنوان (الأورطة السودانية في المكسيك) ومجموعة مقالات متناثرة بلغات مختلفة… هنا المنسي قنديل درس كل ما يمكن دراسته من كتب التاريخ ثم استعان بكتب أخرى لمواكبة العصر، ومنها لإطلاق خياله الجامح في تكملة الصورة ورصد حدث لم يعلم به كثيرون منا.
المنسي قنديل واحد من حراس الهوية المصرية، يحرسها بقلمه النابع من قلبه، الباحث في خلق حلول للشخصية المصرية التي باتت في أمس الحاجة للتقويم، والقارئ لرائعته الأهم والأكبر “يوم غائم في البر الغربي”، يعلم تماما ما أشير إليه، فقنديل هنا جعل الشخصية الرئيسية للرواية هو الفنان المصري الأصيل محمود مختار، تتبع سيرته وإنتاجه، وتتبع نشأة الحراك المصري في ثورة 1919م، ثم عرج بنا على كيفية اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، وأتخذ من شخصية مكتشفها (هوارد كارتر) بطلا آخر في الرواية، ثم جعل إخناتون وتوت عنخ أمون يتحدثان في روايته، شعرت بهم لحما ودما، اقتربت من عصر أجدادي القدماء، هذا الرجل يرجعك إلى ماضيك لتحل به ومنه مشاكل حاضرك.
أما عن اللغة، فيمكن لي أن أجزم بأن المنسي قنديل واحد من أعذب الكتاب في عصرنا دون مواربة، فأسلوبه رقرقة صافية، ولغته السردية متينة ومنحوتة نحتا، وهو يستخدم فعل المضارع في معظم رواياته ليشتبك القارئ مع الأحداث وتتكشف له الصورة وكأنه يعاصرها. الجميل للمنسي قنديل مشروع فكري مع مشروعه السردي الكبير، يبحث في التاريخ، الذي هو بدوره البحث في الهوية، التاريخ الذي يبني المستقبل إذا وعينا رسائله وحفظنا حرمته.