فى رواية “أنا عشقت” يفكك محمد المنسى قنديل العالم، ويترك لنا إعادة تركيبه، ويعلن اغتيال البراءة، ويؤكد انتصار القتلة وفوزهم بكل شيء، ويلعب بالرواية؛ يلعب مع القارئ ألعابا غاية فى الذكاء والخطورة أيضا.
“أنا عشقت” عنوان لا تستطيع أن تنسبه إلى شخصية واحدة بالذات فى الرواية، هو يصلح لكل الشخصيات، فـ”ورد” عشقت “حسن”، و”على” عشق “ورد”، و”ذكرى” عشقت “أكرم”، و”أكرم” عشق المال والنفوذ، و”سمية” عشقت “جلال عمران”، و”جلال” عشق ذاته إلخ، والعنوان يصلح للقارئ والكاتب أيضا، لذلك يحرص الكاتب على أن ينسبه إلى صاحبه الأصلى “يونس القاضى” مشيرا إلى أنه من أغنية لحنها سيد درويش.
يضع الكاتب روايته فى قالب أقرب إلى الرواية البوليسية من حيث الإطار العام، ومن حيث حرصه الشديد على التشويق، سواء بغموض بعض الأحداث أو العلاقات بين شخصيات وأخرى والتى لا يتم الكشف عنها جميعا إلا فى نهاية الرواية، لكن متن الرواية أقرب إلى التحليلية النفسية/الاجتماعية، وهو ما يحقق ارتباط القارئ منذ الصفحة الأولى بالرواية وعدم قدرته على مغادرة عالمها المتشابك، وهو ما يعدد كذلك مستويات التلقى ويعمقها.
وفى هذه الإطلالة السريعة على رواية شديدة الثراء والعمق سألتقط بعض الخيوط والإشارات التى أركز عليها حديثى، وهو ما يعنى أن هناك خطوطا أخرى كثيرة يمكن أن يمسك بها قارئ الرواية ويتتبعها، إنها رواية تحتمل قراءات ربما بأكثر من عدد قارئيها.
لعل فكرة القهر من الأفكار المحورية فى رواية “أنا عشقت”، والقهر هنا يؤدى إلى التجمد الذى هو حافة الموت، فبطلة الرواية “ورد” المقهورة بتخلى حبيبها عنها تتجمد فيزيقيا، إنها حية ميتة، وهي التجسيد الروائى لحالة كل شخصيات العمل، وحالة البيئة التى تحيا فيها هذه الشخصيات، “فعزوز” المهرج مقهور حبا أيضا، وهذا القهر هو الذى جمده لسنوات طويلة عند حالته الأولى التى زار بها مدينة “ورد”، و”حسن” مقهور من السلطة الغاشمة التى قتلت والده ثم تتبعته لتدمر مستقبله، و”ذكرى البرعى” مقهورة بالفقر والرغبة فى الثراء والحب، وأهالى قلعة الكبش مقهورون بالفقر والخوف من اللحظة القادمة.
السلطة الغاشمة قهرت الجميع، من مات ومن قُتل ومن تجمد ومن يعيش ثريا ومن يعيش بلا مأوى، وهو ما ينبأ بمجتمع متهاوٍ ستقضي عليه نفخة ريح لا تبقى ولا تذر، ثورة جياع تكتسح الجميع وتترك الأرض خرابا، قهر يجعل الضعفاء يتجمدون، أو تنتهك أعراضهم، أو يبيعون أجسادهم فيتحولون إلى نعاج وعاهرات، أو يبيعون أرواحهم فيتحولون إلى قتلة.
وهو ليس قهرا عشوائيا وإن يكن غاشما غبيا، إنه قهر منظم، تراه فى الجامعة حيث يقهر المخبر الطلبة، ويقهر الأستاذ تلميذته ويستولي على جسدها، وتراه فى قلعة الكبش حيث تستولى السلطة على بيوت الفقراء بعد أن تهدمها فوق رؤوسهم لتمنحها للأغنياء، وتجده فى المنصورية حيث يحبس الباشا “ذكرى” فى قفص من ذهب، وفى السجن حيث يغتصب “عبد المعطى”، ويتحول “حسن” إلى قاتل، وفى عالم رجال الأعمال حيث يكون “أكرم البدرى” فى نهاية المطاف برغم ثرائه وقدرته مجرد قواد وأداة لتلبية نزوات الباشا الكبير.. هذا القهر الممنهج هو الذى يحطم روح الشخصيات الروائية، وهو الذى يدمر أسس المجتمع الذى تعيش فيه، وهو الذى يؤدى بالنهاية إلى أن يكون المجد للأقوياء والغاشمين والقتلة الذى يقضون على البراءة ويتملكونها.
فـ”حسن” البرئ الذى يتحول إلى قاتل، هو الذى يحيي “ورد” ويعيد إليها الروح، وتذهب معه دون أن تنصت أو حتى تفهم صرخة “على”: “إنه ليس حسن الذى أحببته، إنه قاتل، ليس قاتلا عاديا، ولكنه قاتل محترف يقتل بدم بارد، وربما تكونين أنت ضحيته القادمة“.
“على” الشخصية الوحيدة فى الرواية التى تنتهك نفسيا وجسديا لكنها لا تفقد براءتها، لذلك تضيع صرخته فى البرية، ربما فعلا تكون “ورد” هى الضحية القادمة، ربما يقدمها “حسن” “لأكرم” مثلما قدم “أكرم” “ذكرى” “لراتب باشا”، لتتجدد سلسلة القهر والعهر بلا أمل.
القهر يجعل شخصيات الرواية تشعر بالوحدة والخوف من الآخرين، وتشعر أيضا بالرغبة الشديدة فى التواصل مع الآخرين، كل شخصيات الرواية بدرجة أو بأخرى تشعر بذلك، لكن هذه المشاعر تتجلى أكثر مع عبد المعطى خريج السجون فى علاقته بـ”حسن” أثناء وبعد السجن، وفى لقائه “بعلى” بعد ذلك.
برغم طول الرواية (436 صفحة من القطع المتوسط) إلا أنك لا تستطيع الاستغناء عن سطر واحد فيها، فلا يقدم لك الكاتب فى روايته شيئا بلا معنى، ولا يعطيك فيها ما هو مجانى أبدا.
ولعل اختيار الكاتب للأسماء أحد الأمثلة على ذلك. بداية من اختيار اسم البطلة الأولى التى تجمدت فى الفصل الأول من الرواية فتجمد العالم من حولها، وكان تجمدها سببا فى توالى أحداث الرواية الكاشفة لفساد الشخصيات والمجتمع وعفونته، اسمها “ورد”، هذا الاسم غير المعرف بكل ما يحويه من رقة وسمو، هو الشاهد الجلي على وجود روح نقية فى العالم، وهو النقيض لكل شئ آخر فى الرواية، هو الاسم الوحيد الذى يمنحك أملا وإن يكن متجمدا فهو لم يمت بعد، لذلك كان يجب أن يكون اسم أبيها “محرم”، فهذا الورد/النقاء/الأمل محرم إلا على من يستحقه، “حسن” المحبوب المعشوق القاسى، وهنا تنضج مأساة الرواية لأن المحبوب يعود قاتلا، ويستولى على ال”ورد” الذى لبرائته لا يشم رائحة الدم فى صدر القاتل ولا فى أنفاسه.
“على” مثال النبل والنقاء، يقدم نفسه ومستقبله للمغامرة فى سبيل إنقاذ فتاة لا صلة بينهما ولا تشعر به، يتعرض لكل المحن الممكنة لكنه يظل متمسكا بالأمل فى إنقاذها “لم أعتقد أبدا أنها ميتة، لو أنني وجدت الشخص الذي تحبه، وأخذته إليها، ربما تتغير كيمياء جسدها التي تجمدت و تستعيد إرادة الحياة.. أنا أؤمن بقوة الحب..؟ رأيت ذلك في العديد من حالات الأمراض المستعصية، قليل من الحب يطيل العمر ويخفف من حدة الألم”، يعود بك الاسم إلى جذور تراثية إسلامية “على بن أبى طالب” الفارس النبيل الذى يحارب معاركه ويخسرها هو وبنوه من دون أن يفقدوا نبلهم وإيمانهم الصريح بالصدق والوضوح والبراءة.
“حسن” هو أيضا اسم له جذر تراثى شعبى، الشاطر “حسن”، المنقذ النبيل، لكن المجتمع يحول هذا المنقذ إلى قاتل لا يؤمن حتى بالحب الذى عليه أن يمنحه لـ”ورد” حتى تعود إلى الحياة “الحب والكراهية شيئان تافهان لا يعنيان شيئا، لا تعنينى على الأقل”.
“ذكرى” ابنة الريس برعى الصياد الذى يشبه كثيرا عامل الغزل والد “حسن”، هى الذكرى الباقية من هؤلاء الرجال الذين كانوا يناضلون بصمت وشرف فسحقتهم الحياة، “ذكرى” تسير فى طريق آخر لتصل إلى ما لم يحلموا أن يصلوا إليه، لكنها فى النهاية تُسحق أيضا، وكأن صوت القدر التراجيدى يناديها: يا ابنة الفقر والجوع والقهر مهما تحاولين فلا نجاة لك من مصيرهم، أنت ذكراهم وامتدادهم حتى وإن ارتديت ملابس مختلفة؛ تحت جلدك وأظافرك مرسوم قدرك.
الفصل الأول فقط عنوانه “الواقعة.. كما عايشها ورواها أهل مدينتنا“، فهو الفصل الذى يقدم الحادثة الرئيسية، حادثة تجمد “ورد” قهرا لفراق حبيبها لها، وبرغم أن “على” هو الرواى المباشر لهذا الفصل إلا أنه ليس الرواى الحقيقى، بل هو جامع روايات أهل المدينة الذى أعاد ترتيبها وتنسيقها ليقدمها لنا فى قوام روائى متماسك.
فالفصل الأول إذن يرويه المجتمع بأسره، وعلى ضوء الحادثة الرئيسة فى هذا الفصل سيتم كشف المستور فى حياة المجتمع المحلى بالمدينة والمجتمع الكبير بالعاصمة، وسيتم كشف الشخصيات التى ستروى قصتها فى فصول لاحقة.
لكن ما سمات هذا الراوى الجمعى، ولماذا يقدمه الكاتب هكذا؟
يقدمه الكاتب هكذا لأنه يريدنا منذ اللحظة الأولى أن نربط كل تفاصيل الرواية بواقعها المجتمعى، إننا لا نقرأ قصة مجانية للتسلية، إننا نعرى ونشرط جثة مجتمع تجمد قهرا لحد الموت، لذلك فهذا المجتمع يقدم لك “ورد” ممثلة له ومجسدة لحالته ويطلب منك أن تنقذها وبالتالى تنقذه، ولذا عليك السعى مع “على” ومساعدته بطول فصول الرواية، لا تجلس هكذا مرتاحا وأنت تقرأ، فأنت “ورد” وأنت “على” وربما تكون “حسن” أو “ذكرى”، لكنك فى كل الأحوال أحد الشهود وأحد الضحايا وأحد رواة الفصل الأول؛ فاستيقظ.
ومن أهم سمات هذا الراوي الجمعى ضعفه وهشاشته وعدم يقينه وقوته إذا اتحد (الضابط يخشاهم عندما يتجمون)، لكن الصفة المطلقة الأهمية عندى هى هامشيته، فلا أحد يعيره اهتماما أو يعتبره موجودا، ولا أحد يمنحه احتراما أو قيمة، لذلك ترى ممثلى هذا المجتمع هم ناظر المحطة، وفتيات المحطة الضائعات، والعمال والعاملات المجهدون، والمهرج، والحلاق، والطبيب الناقم، والضابط الفظ الأجوف، والمخبر الحقير.. كلهم هامشيون بلا قيمة، لذلك لا ينتجون سوى النعاج والقتلة.
وعندما يبدأ الرواة الفرديون يستقلون بفصول الرواية، يأخذ كل منهم الكلمة ليساعد “على” فى مهمة البحث عن منقذ “ورد”، فينتهز الفرصة ليتحدث عن نفسه، عن حياته، يقف كل منهم عند اللحظة الزمنية الراهنة وينتهز فرصة وجود “على” البرئ ليتعرى أمامه، يكشف خطوط الطرق المتعرجة والمتصادمة التى قادته إلى تلك اللحظة.
أثناء الرواية يكون كل راو هو مركز العالم، وكل شئ آخر هامشى بالنسبة له، لكنك تكتشف بعد أن تنتهى من الفصل الخاص به، أو عندما تنتهى من الرواية كلها أنه لم يكن سوى “لا شئ” على هامش مركز أكثر سطوة وقدرة.
فالرواة هم عزوز مهرج الشوارع، وعبد المعطى خريج السجون، وسمية رابعة هندسة، وذكرى سيدة الأعمال، أما باقى الفصول فيرويها على نهائى طب.
عزوز المهرج الغريب عن المدينة، وعبد المعطى السجين المنتهك جسديا، وسمية طالبة الهندسة الثائرة التى يستولى أستاذها على روحها وجسدها بما يملكه من سلطة قاهرة خادعة سلطة الأستاذ والرجل الوسيم المثقف الغنى، وذكرى الجسد الذى تم تسليعه وتداوله.
كلهم هامشيون، يعطيهم الحكى لحظات نادرة من الإحساس بأنهم مركز العالم، وهم المركزية الذى لا يدوم، حيث يبقى عزوز فى مخبأه الذى يشبه القبر، ويبقى عبد المعطى خائفا من الغرباء، وتفقد سمية روحها ودماء جسدها فى الإجهاض، وتُقتل ذكرى.
وعندما يقدم الكاتب هؤلاء الرواة الهامشيون الذين لا يختلفون فى صفاتهم الأساسية عن راوى الفصل الأول/الراوى الجمعى، فإنه يقدمهم بحيادية شديدة، بصفة يمكن أن تنطبق على عشرات أو ملايين، وهى الضربة التى يوجهها الكاتب لهم وهو يمنحهم فرصة التعبير عن ذواتهم، أنتم لستم متفردون عن غيركم، أنت مجرد مهرج، وأنت خريج سجون، وأنت طالبة، وأنت سيدة أعمال، لكنه توجيه للقارئ أيضا، هؤلاء الذين سيقدمون إليك أنفسهم كذوات متفردة هم ممثلون للمجتمع المتفسخ الذى تعيش فيه، هم أفراد كما أنت فرد فى هذا المجتمع، لكنهم أيضا هم كل هذا المجتمع، المجتمع ليس بخير وهؤلاء ليسوا فقط مجرد ضحايا أو نماذج شاذة مثلما تقدم الروايات الأخرى، المجتمع هو هؤلاء وهم هو فلا تخدعن نفسك عندما تنتهى من الرواية وتواصل حياتك ببساطة، لأن حياتك بعدها لابد أن تختلف قطعا.
ولم يعط الكاتب الكلمة “لأكرم البدرى” ولا “لراتب باشا” ولا لـ”جلال عمران” ولا حتى لـ”حسن”، هؤلاء فى المركز بالفعل، هؤلاء هم السارقون الجشعون الفاسدون المفسدون القتلة، هؤلاء هم أرباب هذا المجتمع وليسوا بحاجة لأن يتحدثوا لتعرفهم أو لتراهم، فهم هنا غصبا عنك، وهم هنا فوق أنفاسك، وهم من سيحصدون أيام حياتك فى خزائنهم، هم من جعل لكل واحد من الهامشيين الجمعيين والفرديين قصة يمكن أن تروى، لكنهم من يرسمون خطوط القصص ويحددون مساراتها، ويقتلون من يخالف تلك المسارات.
أما الراوى الآخر “على” الذى يقدمه الكاتب بحيادية أيضا “نهائى طب”، فهو الشاهد الأخرس الذى لم يحرك ساكنا. هو الوحيد الذى حاول أن يخرج من دائرة الهامش بأن يقدم فعلا نبيلا نابعا من عشق غير مفهوم، أربعة فصول من تسعة فصول هى كل الرواية يرويها “على”، كما أنه يروى الفصل الأول نيابة عن الآخرين، وهو لا يتحدث عن نفسه كثيرا، هو يتحدث عن الآخرين طوال الوقت عن “ورد” و”حسن” و”سمية” و”ذكرى” و”المهرج” و”المدينة” و”العاصمة” إلخ، وهو يعرف الكثير جدا، ويتعلم الكثير، ولا يفقد من براءته سوى القليل، لذلك لا يصبح بعد من أهل الهامش، لكنه لا يكون أبدا من أهل المركز، وهو أيضا أمل متجدد بوجوده بعد أن استولى “حسن” القاتل على “ورد” ، هو “على” وهو ملايين من “نهائى طب” أيضا، هم أنفسهم الملايين الذين سيواصلون ما بدأه “على”، كشف الزيف عن كل شئ فى المجتمع؛ الفساد والقهر الذى يغلف كل شئ بداية من مهنة المخبر إلى الضابط إلى الطبيب إلى المهندس إلى أستاذ الجامعة إلى رجال وسيدات الأعمال إلى ناظر المحطة والمهرج والعامل إلخ، وهم أيضا الذين سيواصلون الخطوة التالية بعد الكشف، خطوة الثورة على كل ما عرته الرواية.
هذه الرواية المقلقة لن تستطيع أن تغلق غلافها الأخير بعد أن تقرأ آخر سطر من دون أن تسأل نفسك: من أنا بين كل هؤلاء؟ وما الذى يجب علىّ أن أفعله؟ ولابد أنك ستفكر أين “على” لتضع يدك فى يديه وتواصلا المشوار الطويل الصعب!