في شهر يناير 2011 وقبل الثورة باسبوع بالتمام والكمال، كانت فرصتي الأولي والأخيرة في محاورة النجم العالمي عمر الشريف وجها لوجه، بعد مطاردات استمرت عام، ولا أخفي ان كثير من المرات الفاشلة كانت تنتهي باغلاق سماعة الهاتف في وجهي.
لم أشعر باليأس علي الاطلاق فطالما انني استطيع الوصول اليه ونحن الاثنين علي قيد الحياه، ففرصة اجراء الحوار تبقي قائمة.
قبل اليوم الموعود بيوم، اتصلت بالمخرجه الراحله ايناس بكر لأمارس عادتي في “الزن”، فنصحتني بان اتصل به في الحال، “يالا ياحمد بسرعه الحق كلمه وخد منه الميعاد وهو رايق عشان تعمل الحوار اللي مصدعني بيه.. انا لسه قافله معاه ومزاجه حلو”.
بسرعه اتصلت بالفندق وحولني علي غرفته فأجاب بلطف عكس كل المرات، قلت له ازيك يا استاذ عمر، انا احمد فاروق صحفي بجريدة الشروق، فلم يغلق الهاتف كعادته، فتفائلت الصراحه.
وقال لي اهلا وسهلا.. خير.
فأخبرته اني بحاول اعمل معاه حوار بقالي سنه، فاستغرب وقالي: يعني انت معطل نفسك سنه كامله عشان تعمل معايا حوار.. عشان ايه يعني؟
طبعا استغربت من الاجابه، وقلت لنفسي، الراجل ده مش عارف هو مين ولا بيسخر مني، المهم كملت: لا يافندم انا بشتغل عادي، بس بحاول اوصل لحضرتك بقالي سنه ومش عارف، وحضرتك بالنسبة لي اهم حوار ممكن اعمله في حياتي.
فرد بتلقائية، طب ياسيدي انا موافق، إختار بنفسك اليوم والوقت اللي انت عايزه وتعالي الفندق اعمل الحوار اللي بتقول انه اهم حوار.
واتفقنا علي اليوم التالي مباشرة في السادسه مساء لمدة ساعه، بيني وبينكم كنت خايف ينسي الميعاد، فاتصلت بايناس بكر مره اخري وحكيت لها ما حدث، فطمأنتني وأكدت لي انه سيلتزم بالموعد.
قضيت يوما كاملا أقرأ عنه منذ اغلقت الهاتف معه وحتي ذهبت اليه في اليوم التالي، وذهبت اليه في الموعد ومعي زميلي المصور احمد عبد اللطيف.
لسوء الحظ اوقفنا امن الفندق علي الباب بسبب الكاميرا، واصر الا نصعد لعمر الشريف الا بعد ان يرد علي هاتف الغرفه ويأذن لنا بالدخول.
تأخر عمر الشريف في الرد علي هاتف الغرفه، وترتب علي ذلك تأخرنا عليه لمدة 5 دقائق.
عندما دخلنا الجناح الذي كان يعيش فيه بالفندق الذي يطل علي نيل القاهره، “بالبلدي كده غسلني”، واعطاني درس في الالتزام، واتهمني علي عكس الحقيقية باني “مستهتر”.
واستمر في توبيخي قائلا، ازاي تيجي متأخر عن ميعادك 5 دقائق، دا انا عمر الشريف لما باخد ميعاد من حد بروح قبله بنص ساعه.
حاولت ان ابرر موقفي فلم يتفهم، فقررت ان اتجاوز واعتذرت عن الخطأ غير المقصود، فقال، علي العموم انت ليك عندي ساعه خلص منها 5 دقائق، باقي 55.
بدأ الحوار واعتقدت انه مثل غيره من الفنانين عندما نفتح في الكلام ونستعيد الذكريات والانجازات لن نتوقف، ولكني فوجئت الساعه السابعه الا خمس دقائق بإيقاف الحوار، واخبرني بأن الحوار لم يتبق فيه الا خمس دقائق، وطلب ان اختار سؤال من الورق الموجود امامي، وتابع مازحا، “انت جايب معاك كشكول هو انت فاكرني سهران معاك طول الليل ولا ايه؟
وكرر مره اخري، اختار لك سؤال بسرعه عشان عندي ميعاد الساعه 7 مش هينفع اتأخر عليه.
فأجبت بحسن نيه، يتبقي لي سؤالين وانتهي بالفعل من إجراء الحوار.. لم اصدق ان هذا الفنان العالمي رمز الرومانسيه يمكن ان يكون له وش تاني ويتحول الي شخص مخيف في لحظه.
باختصار، بدأ وصلة توبيخ “انت قليل الادب، بقي انا اقولك سؤال تقولي سؤالين”.
صدمتي فيه جعلتني اختار الصمت، لكن هذا ايضا لم يشفع لي، فزاد في الاساءة قائلا، “الصحفيين كلهم كده، كل واحد شايف نفسه نجيب محفوظ، يطلع عيني ويمشي.
طبعا المشهد كان مرعب، فلم يتبقي الا ان يطلب أمن الفندق ليرميني وزميلي المصور في الشارع.
وسط ثورة الغضب التي استمرت 5 دقائق علي الاقل، سمعنا صوت جرس تليفون الغرفه.
تخلي عمر الشريف عن صوته العال، وتماسك اعصابه، واستعاد هدوءه، ثم رد علي المتصل بجملتين، انت وصلت؟، طيب نازل علي طول، قبل ان يعيد السماعه الي مكانها.
في هذه اللحظه كنت انتظر استمرار وصلة التوبيخ، لكن المفاجأة أنه تحول مره اخري وعاد للوش الاول، ومزح معي قائلا وكأنه انسان أخر وشيئا مما سبق لم يحدث، “انت كنت هتطلع من الغرفه لوحدك استني بقي خدني معاك”.
وقف امام المراّة يستعيد اناقته، صفف شعره وارتدي جاكت، واصطحبنا خارج الغرفه متجهين الي “الاسانسير”، فبادر بالاعتذار عن الاساءة، “معلش يابني انا رجل كبير وبتعصب بسرعه متزعلش مني.. وصمت ثواني ثم عاد مره اخري ليوبخني “بس انت برده قليل الادب، لما راجل كبير يقولك علي حاجه لازم تسمع الكلام، وبعدين لو انت ذكي كنت سألت سؤال ولو فيه وقت تاني كنت هجاوبك علي السؤال الثاني انا وعدتك ان ليك ساعه تعمل فيها الحوار.
قبل ان يودعنا اشار بيديه الي الضيف الذي ينتظره في الاستقبال حتي لا نعتقد انه يدعي التزامه بموعد اخر، كان هذا الضيف صديقه زاهي حواس أمين عام المجلس الاعلي للاثار في هذا الوقت.
خرجت من الفندق لا أتذكر شيئا الا انني اجريت حوارا مع اهم فنان مصري يمكن ان اسعي للوصول اليه طوال حياتي، بينما لم يكن علي لسان زميلي المصور احمد عبد اللطيف الا جمله واحده “مش هنسالك انك ضيعت مني صورة مع عمر الشريف مش هتتكرر تاني”
بالمناسبة الثورة قامت قبل نشر الحوار وتم تأجيله، ليوليو 2011، حتي تتاح لي فرصة تحديث الجزء السياسي منه، ونشر الجزء الاول بالفعل في 18 يوليو 2011 تحت عنوان “لو كنت مكان مبارك لانتحرت واخشي ان تتحول مصر الي لبنان جديد”، بينما كان عنوان الجزء الثاني “السينما المصرية بلا قيمه في العالم.. والفنان مجرد بلياتشو”.
اخيرا، قناعتي الشخصية ان ما حدث من عمر الشريف في هذا الحوار لم يكن مجرد “وش تاني”، يستخدمه متي شاء، ولكن كانت أفعال لا اراديه، تؤكد أنه كان يعاني منذ هذه اللحظه من مرض الزهايمر، وللأسف لم يهتم أحد بعلاجه حتي تملك منه المرض ووصل الي مرحله متقدمه يصعب التعامل معها.
فبعيدا عن الموقف الذي تعرضت له شخصيا، كشفت لي المخرجه ايناس بكر قبل وفاتها انه كان يرفض الأعمال التي تعرض عليه لأنه لم يعد قادرا علي حفظ الاسكريبت، أيضا هناك شواهد اخري، كخروجه عن المألوف في عدد من الاحداث العامه، فلا أحد ينسي صفعه لمراسلة الحره علي وجهها في مهرجان الدوحه 2011 بلا مبرر، وأحداث اخري شبيهه علي مدار السنوات الاربعه الماضية، دفعت اسرته مضطره لإعلان خبر اصابته بالزهايمر وبدء مراحل العلاج فقط قبل وفاته بشهرين، و”بعد فوات الأوان” طبعا.