فى فيلم «تايتانيك» للمخرج جيمس كاميرون مشهد جدير بالتأمل، الجميع كانوا فى صراع مع الموت الذى يقف متربصا بهم، بينما كانت الفرقة الموسيقية فى عز الهلع والخوف تواصل العزف ولا أحد يستمع، رأينا الركاب جميعا يهرعون للبحث عن أمل فى النجاة، وبعد انتهاء العزف وجَّه المايسترو التحية إلى أفراد الفرقة.
كان العازفون يؤرقهم الإحساس بالمسؤولية تجاه أنفسهم أولا، وأن عليهم أن يواصلوا أداء المهمة المكلفين بها، كانوا مدركين الخطر ولكنهم مؤمنون بالواجب.
وبقدر ما تعاطفتُ مع الفرقة الموسيقية بقدر ما توقفتُ أمام ما يحدث فى فرقة الرقابة على التليفزيون المصرى، وهى تؤدى عزفها هذه المرة بالحذف تمشيا مع إحساسها بالواجب تجاه قيادات ماسبيرو، رغم أن هذه الشاشات التابعة للدولة انكسرت تماما ولم يعد هناك من يحرص على متابعتها، بينما كل الفضائيات بجوارها تقدم المسلسل كاملا بلا حذف. الرقابة هنا تطبّق معاييرها الصارمة، هذا مشهد به «تعاطٍ» يُحذف، وذاك مشهد به ضابط شرطة منحرف لا يجوز عرضه، التليفزيون وإدارته يقولون «هذه قواعدنا، ومن يُرِد أن يعرض بضاعته عندنا وعلى شاشتنا فعليه أن يلتزم بتلك المعايير»! نعم كان الكل يسعى حتى قبل 5 سنوات للعرض على شاشة ماسبيرو، وعشت زمنًا كان البعض يمارس فيه ضغوطًا على القيادات فى هذا المبنى لكى يسمح له بمساحة على الشاشة، وأمام عشرات من الأعمال التى تنهال على التليفزيون كانت تُعقد لجنة للاختيار قبل رمضان فى عهد وزير الإعلام الأسبق أنس الفقى برئاسة د.فوزى فهمى، وكنت مشاركا فى عضويتها، وكثيرا ما كانت تنتهى اللجنة إلى نتائج بإبعاد بعض المسلسلات الضعيفة فنيًّا، الآن صار الكل يعتبر هذه الشاشة منفًى، ويسعى للعرض بعيدا عنها، حتى مسلسل «دنيا جديدة» الذى عاد به الإنتاج المصرى عُرض فى أكثر من قناة خارج ماسبيرو، الأكثر من ذلك أن المسلسلات التى وافق القطاع الخاص على منحها لماسبيرو كان الغرض منها الوقوف مع تليفزيون الدولة، حتى لا يسقط، إنه نوع من التكاتف مع الإعلام الرسمى الذى تهاوت شاشته، ورغم ذلك ستجد أن مخرجى أكثر من مسلسل أعلنوا على صفحاتهم الإلكترونية وفى الجرائد أنهم يطلبون من المشاهدين أن لا يتابعوه على القنوات الرسمية.
أتفهم أن مركز مكافحة التدخين والمخدرات انزعج وكتب تقارير ضد هذه الأعمال، فهى بطبعها رقابة انتقائية، تتابع عدد مشاهد التدخين أو التعاطى بعيدا عن ضرورتها الدرامية مثلما تتابع مؤسسة دينية، الأزهر أو الكنيسة، أو مجالس قومية متخصصة مثل «المرأة» أو «الطفولة» وغيرهما العمل الفنى برؤية دينية أو أخلاقية، أتفهم ذلك حتى لو كانت لى تحفظات على النتائج، تظل هذه نظرة انتقائية لها ما يبررها، ولكن الرقابة التى تؤدى واجبها فى الحذف وحولها عشرات من الفضائيات تعرض العمل الفنى كاملا تجعلنا نشعر أنها تعانى من تصلب فى شرايين التواصل مع الزمن، الرقابة أسقطتها الأيام مع الأقمار الفضائية، يكفى أن تكتب تحذيرا على الشاشة وتخلص ضميرها بأن هذا المسلسل «+18»، ولكن التدخل السافر بالحذف مرفوض وتطبيق معايير رقابية مثل ممنوع الاقتراب من رجل الشرطة وضرورة إظهار الجانب الإيجابى وغيرها التى لا يمكن أن تؤدى إلى إنتاج أعمال فنية يشاهدها أحد.
«ماسبيرو» الذى يشهد عشرات من المعارك تتناثر هنا وهناك بين قياداته يقف على سطح صفيح ساخن، وهناك صراعات تجرى فى الكواليس أدت إلى تدخل رئيس الوزراء لرأب الصدع بين أكثر من قيادة، ولكن التغيير وشيك، والكل يقرأ شفرة النظام الذى يؤكد أننا بصدد دولة متحفظة ومتحفزة وأن الطريق الوحيد لكى تضمن موقعًا فى المنظومة القادمة هو أن تُظهر قدرا من الرجعية، وأن تتهم كل ما تراه على الشاشة بالفساد، وتُقدم نفسك باعتبارك حامى الفضيلة والأخلاق.
كانت فرقة «تايتانيك» تعزف بمهارة رغم أن السفينة غارقة لا محالة، أما هؤلاء فإنهم بهذا العزف النشاز يسهمون فى عزف سيمفونية وداع ماسبيرو.
نقلًا عن جريدة “التحرير”