حالة من الحزن غيمت على الوسط الثقافي بعد خبر وفاة الكاتب الكبير سعيد الكفراوي، الذي رحل صباح اليوم السبت، عن عمر ناهز 81 عاما، أثرى خلالها الحياة الأدبية والثقافية بعدد كبير من المجموعات القصصية والفعاليات الثقافية.
استطاع “الكفراوي” خلال مسيرته أن يخلق حالة أدبية فريدة، كان فيها مؤنسا ورفيقا للعديد من الكُتاب، فبخلاف شلة المحلة التي جمعته بجابر عصفور ومحمد المنسي قنديل ونصر حامد أبو زيد وجار النبي الحلو، وغيرهم، جمعته أيضا علاقة صداقة كبيرة بكُتاب القاهرة والتي كان من بينها علاقته بالكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد.
ويحكي “عبد المجيد” في كتابه الأحدث “الأيام الحلوة فقط”، والصادر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع، عن علاقته بسعيد الكفراوي من خلال فصل كامل، بعنوان “في محبة سعيد الكفراوي”، تناول فيه أبرز المواقف التي جمعت بينهما وكيف كان الكفراوي ودودا محبا للضحك، فيقول:
“سعيد يعرف أني رغم ضخامة جسمي وطولي إلا أنني عاطفي جدًّا، ويمكن أن تسبقني دموعي فى بعض المواقف. ذهبت معه يومًا إلى أحد الأسواق نشترى شرائط تسجيل أغانٍ مغربية. فهمس للبائع أن يضع شريطًا لنعيمة سميح تغنى 《ياك جرحي》، كان يعرف أن هذه الأغنية تسرق مني دموعي، وأنا حتى الآن لم أعرف لماذا يحدث لي ذلك مع هذه الأغنية. تسبقني دموعي مع أغنية أخرى لفايزة أحمد هى 《يا لولى يا غالي》. المهم قام الرجل بوضع شريط أغنية نعيمة سميح، فخرجت على الفور من المحل أمسح دموعي، وأحاول أن أتماسك وسعيد يشير لي ويضحك. خرجت من المحل أمسح دموعي، وخرج سعيد يضحك ومعه الشريط، وقال لي: 《اشتريته لك》، ومشينا.
في مراكش ذات مرة مشيت مع سعيد في الأسواق، وكانت جولة جميلة جدًّا. كنا نريد شراء بعض الملابس، وكلما قال البائع سعرًا، قال له سعيد سعرًا أقل بكثير، حتى سألنا أحد الباعة عن عملنا في مصر. قلت له أنا مدير عام وسعيد لا يعمل. قال لي: “ما هو راتبك؟”، قلت له: “350 جنيه”. كان كذلك في ذلك الوقت فى منتصف التسعينيات تقريبًا، وخرجت على المعاش فيما بعد وراتبي 650 جنيهًا عام 2006. ما علينا.. سألنى الرجل: “يعنى كم دولار؟”، قلت: “له 150 دولار”.
راح الرجل يهتف: “مائة وخمسين دولار.. مائة وخمسين دولار.. مدير عام بمائة وخمسين دولار. مصرى بمائة وخمسين دولار..”، والباعة والناس تضحك، وقال لنا: “خذوا ما تريدون بأى سعر والله”. وقفنا نضحك. المدهش فى هذه الجولة أننا ونحن نمشى وحدنا قبل أن ندخل الأسواق تقدم منا شاب مغربى وسيم وسألنا: “مصريين؟”، قلنا: “نعم”. قال: “طيب أنا عايز أمثل فى السينما. ممكن تساعدوني؟”. وراح يقوم بحركات على الأرض. شقلباظات. ويقف على يديه، وهكذا.
قلنا له: “نساعدك إن شاء الله” ونحن نضحك. راح يسألنا عن الممثلين وكيف أحوالهم، كأننا نعرفهم، وقال لنا: “لن أترككم وحدكما فى السوق”.
مشى معنا يرشدنا إلى الأماكن التى نسأله عنها، وعن الأشياء التى يمكن أن نشتريها، وبعد الجولة جلسنا فى المقهى معه وعزمنا على الشاى المغربي، وتركناه. فى اليوم التالي، ذهبت إلى هذا المقهى، فوجدت الشاب جالسًا. صافحته. سألني: “هل من جولة أخرى؟”، قلت: “لا”. كنت وحدى وسألته ماذا يعمل، فقال: “مرشد سياحي”. اندهشت جدًّا أنه لم يخبرنا بذلك، وسألته: “لماذا لم تخبرنا حقًّا حتى نعطيك شيئًا من المال”، قال: “المال ليس مهمًّا والله، أنتم ضيوفنا ونحن نحب مصر”.
كنت متأثرًا جدًّا لأجله، وأعطيته عشرين دولارًا بعد إلحاح فقبلها فى النهاية، وتركته متأثرًا داعيًا له بالخير، ولما قلت لسعيد، قال: “هذا الشاب قصة ما رأيك أن نكتبها معًا”. قررنا ذلك، لكن لم نفعلها للأسف.
في سفرية أخرى، كانت معي فيها زوجتى تيسير، وكان مع سعيد ابنه الفنان الجميل عمرو الكفراوي. كالعادة لم نكفَّ عن الضحك. كالعادة تقفز حكاية إسماعيل ياسين مع جمال عبد الناصر، يُضاف إليها حكاياتنا فى السفرات السابقة. قابلنا الكاتب المغربي عبد الكريم الجويطي، وكان من قبل قد عرض علينا أن نزور بلدته 《بني ملال》. سألني سعيد بعد أن تركناه: “إيه بني ملال دي! يا عم خلينا فى الدار البيضا ومراكش والرباط وفاس ومكناس”. لكني هذه المرة شعرت بالإحراج أمام الجويطي. فوافقت. كنا سنسافر في اليوم التالي فى المساء إلى القاهرة، ومن ثم كان السفر متوقعًا أن يكون مرهقًا، لكننا ذهبنا هذه المرة. عبد الكريم الجويطى أخذنا فى سيارته فى المساء حتى يكون لدينا وقت فى اليوم التالى للفُرجة على بنى ملال، ثم العودة على موعد الطائرة للسفر إلى القاهرة.
قال لنا الجويطي إن المسافة ليست بعيدة ربما ساعتين أو أكثر قليلًا. وافق سعيد لأنى وافقت وقال لي: “أنت مجنون لكن نروح علشان نخلص من الدعوى دي”. المدهش أن الطريق طال جدًّا حتى وصلنا بعد منتصف الليل. كنا لا نستطيع العودة من منتصف الطريق . كنا فى حرج كبير. أخذنا عبد الكريم قبل أن ننزل فى الفندق لنستريح إلى منطقة خضراء بها شلال مياه صغير تبدو متنزهًا، وكان هناك عروسة وعريس وغناء حولهما، وقال لنا: “غدًا نشاهد أماكن أخرى جميلة “. فى طريقنا داخل المدينة التى ليست كبيرة كنا نرى كثيرًا من البضائع المهملة أمام المحلات. أخشاب وحديد وأشياء تذكرنى بمخازن الخردة فى مصر، وسعيد ينظر لى ويقول: “دى بنى ملال اللى ضيعنا الليلة علشانها؟!”. أخذنا عبد الكريم بعد الفرح إلى مطعم وكان ينتظرنا طعام فاخر وغزير، وكان لأننا مصريون كل الطعام مشويات وكفتة. لم يكن بينه طعام مغربي رغم أننا نحب الطاجين والكسكس.
المهم انتهينا وأخذنا إلى الفندق، ودخلت الغرفة التى لى ولزوجتي. ما كدنا نجلس وما كادت زوجتى تفتح الحقيبة الصغيرة التى بها ملابس النوم، حتى هلَّ سعيد علينا فى الغرفة فاتحًا الباب دون حتى أن يدقه، وقال: “أنت حتعمل إيه؟ حتقلع وتلبس وتنام؟ يا للا بينا خلينا نرجع الطيارة حتروح مننا”. ضحكنا ولم نندهش. أغلقت زوجتى الحقيبة الصغيرة، وخرجنا، ونزلنا إلى بهو الفندق حيث عبد الكريم لا يزال ينتظر، وقال له سعيد: “سنعود الآن. خلاص شفنا بني ملال.. حلوة جدًّا”. ارتبك عبد الكريم الجاويطي، ولم يتكلم، وأخذنا إلى موقف باصات وأخذنا طريقنا إلى العودة نضحك ويغالبنا النوم.