نقلا عن cnn
تيم حسن
في فصل الخريف، وعلى مسرح القباني في دمشق والصالة ملأى بجمهور مسرحية “الطيب الشرير والجميلة” للكاتب ألفرد فرج، وإخراج عبد الحميد خليفة، كنت أقف مع الصديق الممثل خفيف الظل جمال العلي في كواليس المسرح، ننتظر لحظة دخولنا خشبة المسرح، بعد الثلث الأول منها على ما أذكر.
وكانت تلك المرة الأولى التي سأدخل فيها المسرح بصفتي كومبارس غير ناطق؛ يعتقد كُثر أن الكومبارس عمل سهل، غير أني أحلف لكم بأن الضغط النفسي والثقل والخوف الذي يعانيه أحدنا في تلك المرحلة ثقيل حتى على الجبال …، ليُربت جمال العلي على كتفي وقد كان واحدا من أبطال المسرحية وقتها، إلى جانب اندريه سكاف ونضال سيجري رحمه الله وآخرين قائلا: “يا زلمة خايف ومتلبك وما عندك كلمة وحدة، أنا صارلي 16 سنة داخل طالع على خشبة هالمسرح، خدها مني لا تحملها كثير استمتع بتمشي الأمور.” ، ثم دخلنا عمق المسرح ليكون مشهدي الأول أمام جمهور .
كان هذا سنة ١٩٩٥، سنة كاملة عملتها في المسرح القومي، فيها رحلة غاية في الغِنى بل كانت مدرسة قائمة بذاتها تلك السنة، فلم يكن اختصاصٌ في المسرح وكواليسه، إلا وأوكل لي ولزملائي وقتها، مثل الفنان الصديق مالك محمد، والصديق أحمد ياسين بقوش.. من كومبارس إلى ديكور إلى إدارة المنصة، الى التنظيف إلى الإضاءة.
ولم تكن تلك المسرحية الوحيدة وقتها، بل ومع إتمام السنة كاملة، كان في جعبتي 3 عروض أخرى، بين كومبارس غير ناطق، أو كومبارس بجملة صغيرة، وهي “الغول”، “مكبث”، “يرما”، والأخيرة كانت عرضاً لتخرج طلاب السنة الرابعة، تحت إشراف الأستاذ غسان مسعود، وكنت فيها مسؤول إكسسوارات فقط.
كانت هذه المرحلة معهداً قبل المعهد العالي، تعلمت فيها من الدروس، والمواقف، والطرائف، والأحزان، والخيبات، والعبر الكثير، وما ليس مكانه الآن للتفصيل فيه. ولكن كيف وصلتُ إلى هنا؟ إلى هذه المسرحيات وبين هؤلاء الناس؟
في ربيع 1995 كنت أجلس بجانب الهاتف الأرضي في منزل جدي في مدينة جبلة، أبحث عن رقم صديق الدراسة الإعدادية والثانوية زياد عدوان، من خلال دفتر هاتفي الملون الصغير “الأكورديوني” الشكل، وبدأت تدوير قرص الأرقام.
أنت لا تدرك دوماً ما موقع وأهمية فعلك، أيا كان حجمه في مسارك، أو تاريخك الشخصي وقدَرك.. لم يكن يخطر لي أن الصوت الذي سأسمعه سيكون لحظةً لن أنساها، المجيب من الطرف الثاني كان الأستاذ ممدوح عدوان والد زياد. كان الاستاذ ممدوح من المشاهير، ولم يسبق لي أن التقيته مطلقاً، وكانت تلك المرة الأولى- تستطيعون القول- التي أتحدث فيها الى أحد المشاهير.
سألت زياد السؤال الساذج: هل المعهد العالي للفنون المسرحية يحتاج إلى دوام؟
لكم أن تتخيلوا كم ضحك زياد ووالده رحمه الله!
الحقيقة لم يكن السؤال سذاجة مطلقة، فهناك في بعض الكليات، أو الجامعات، ومع ازدحام الطلبة، لم يكن مستغرباً أن يحضر الطالب الامتحانات فقط، ويغيب عن كثير من المحاضرات وهذا ما ظننته مخطئا في المعهد العالي للفنون المسرحية.
لست من المولعين بتأويل كل أمر يحدث على أنه إشارة من الغيب، لكن لعلها ليست مصادفة أن تكون الكلمات الأولى التي أسمعها في طريقي القادم هي من “صاحب كلمة”، من كاتب مخضرم حتى ولو كان حديثا مقتضباً.
تقدمت حينها للمعهد ورُفضت من قبل اللجنة، وقررت أن أصارع حتى أدخله، وواحدة من ضرائبه كانت عملي الاختياري بصفة “كومبارس” عاماً كاملاً، لأتجهز عملياً وليس نظرياً فقط، حتى يحين موعد تقديمي لامتحان العام المقبل أمام لجنته.
بدت علاقتي بالمعهد وكأنها نداء روحي يناديني، بعدما فُتنت بتفاصيل كثيرة فيه، فمثلاً عدد الطلاب ليس بالمئات، وأحياناً بالآلاف للسنة الواحدة كما كثير من الكليات، بل عدد قليل، وكان صادماً لي؛ حيث أن عدد المقبولين والطلاب لا يتجاوز العشرة طلاب، أضف إلى أنهم عندما يمتدحون طالباً جيداً أو متفوقا، ً لا يقولون “شاطر” كما باقي المجالات بل يقولون “موهوب”! الله؛ أيُّ كلمة!
تشاء الاقدار أن يختارني الأستاذ المخرج الكبير حاتم علي، خاصاً إياي لسنوات طويلة في سوريا وخارجها بأهم الأدوار، فبدأت رحلتي مع مخرج فذ، له وجهة نظر في الكتابة والكلمة، قارئ متعمق، ويمتلك حساسية فنية، وتقنية عالية يتمنى كبار النجوم، وصغارهم العمل معه.
وها هو الدكتور وليد سيف يظهر مبكراً في دربي، من خلال شراكته مع الأستاذ حاتم، فينقلنا جميعاً من خلال مستوى المسلسل التاريخي السوري، إلى مكان أعلى، وإلى نصوص يتفرد فيها، ولا يُجارى، والمسألة هنا ليست إنشاء، فالرجل بعد أن أصبحنا أصدقاء أدركت كم هو صعب على الكثير من الكتاب أن يقدم المستوى هذا، فالمسألة ليست حصيلة مواقف اجتماعية، وخزين من الأمثال، والقصص، والطرائف فقط، بل هو منهجية علمية دراسية، وحصيلة بناؤها العلم، واتساع الرؤية، والمعارف المكنونة المؤسسة على الموهبة…تتسابق هذه المكونات، فتنسكب إبداعاً من قلمه.
مهمتنا بوصفنا ممثلين ليست منفصلة عما يحيط بها، ولهذا سُقت البدايات متحدثا عن نفسي، وأنا اجزم أنّ لكثيرين قصصهم على اختلاف التفاصيل، لأن الرحلة بين إعداد الممثل وجهوزيته في مرحلة ما/ ليس لها نتيجة تُذكر بمعزل عما حولها، بدءاً بالإنتاج وقراراته هل نكلف المخرج الفلاني أم لا؟ هل يوّكل الكاتب الفلاني أم لا؟ هل نستثمر في الموضوع هذا أو لا؟ أم نركز على مواضيع أخرى؛ تتداخل في هذا كله رقابة عامة، وذاتية، وظرف عام طبعاً.
ولا بد هنا أن تشكر شركات عدة في سوريا، كان لها الإسهام الهام في رفع المستوى والمنافسة، ومنها “سوريا الدولية” وهي شركة إنتاج هامة منذ أواخر التسعينات، تبنيها لخيارات ورؤية هذه المواضيع بمخرجها، وكاتبها بدءاً بممدوح عدوان، وانتهاء بالدكتور وليد سيف، والتي أثبتت السنين أنها، أي هذه المواضيع والمسلسلات، عاشت طويلاً، وأظنها ستعيش أكثر.
غير أن الظروف تحتم على الجميع أن يجد سبيلاً دائماً للعمل، بدافع العيش والوجود والمنافسة، فما الحل مع تغيرات كبرى أخذت بلداً كاملاً، ومنطقة بأسرها بعيداً، فأصبح الفن بشكله هذا، وربما برمته أمراً صعب المنال.
هكذا.. تفرق الممثلون والكُتاب والمخرجون وأصبحت فكرة الاستمرار مع أقل الضرر الفكري والفني والمادي هي السائدة وهي الواقع والواقعية، فالكتابة التي يُبني عليها عملنا جميعاً، وهي ما أحب أن أركز عليه هنا، أصبحت محددة مع المتغير الكبير، وحساسية الاستقبال، وبدأت تتحدد أكثر، فضاق أفق المسموح أكثر، وتشظى الكُتاب فتحولوا ورشاً للكتابة متفاوتة المستوى، وهو أمر له بعض الجوانب الجيدة، خصوصاً إن توفرت مواهب ومهارات، ولكنه في رأيي ليس كروح واحدةٍ جامعة في قلم كاتب جيد ، إلا إذا أُديرت هذه الورشات، من قبل كاتب متمرس ينظم الآلية بين الكتاب، وفق مسار محدد، وأهداف محددة ، وعلى أي حال لايزال هذا النظام في خطواته الأولى.
بات العمل في لبنان هو البوابة الأوسع للطَعم السوري ممزوجاً مع اللبناني، بمعايير جديدة فـعَّـلها وأدارها المنتج الكبير صادق الصباح بذكاء، ليبني عليها النوع الجديد هذا، إذ أنه لطالما توفرت بين البيئتين، اجتماعياً وتاريخياً، عناصر التوافق والتكامل، التي عكس بعضها هذا النوع الفني، وتابعها بنسب عالية جمهور البلدين، ومن زاوية العين العربية، بدا هذا المُنتج الفني المشترك مستساغاً، وكأنه بهوية “بلاد شامية” إن جاز التعبير؛ فكان النجاح.
إلا أننا لا نزال نقاتل طوال الوقت للحصول على حجر زاوية أمتن ألا وهو الكتابة، وما تركيزي هنا فيما أكتب على عنصر الكتابة وهو روح المهنة كلها، إلا لطرح السؤال مع السائلين عن خوفٍ حقيقي على مآلنا…
قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية منبع مفترض، مليء بتاريخ من المواهب أخص من هم في وقت دراستي، ومن سبقنا مثل د. أسامة غنم، ولكنهم بين معتكف، وبين غير راغب في التلفزيون الحالي، أو حتى السابق كمضمون استهلاكي، وبين غير قادر، أو رافض لخلق المعادلة مع الظرف التسويقي المستجد، والنتيجة أننا ننتظر فقط.
لا عتب مُضمر هنا على أي كيان علمي كالمعهد المسرحي، أو من هو خارجه، فهو كما نحن نخضع لظروف وتبدلات ؛ وتتغير مثلها مثل أي كائن حي بين شباب ومشيب، وأجزم هنا أن ما كان عليه المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق في سنوات بداية الألفية الثانية، يختلف بفارق كبير عن ما هو عليه بعدها مباشرة، ولا دليل أقوى من النتائج والإصدارات، وأقصد كل الأقسام لا التمثيل فقط، فقد قام على قامات من الصعب تكرارها، فانعكس على مستوى خريجيه حكماً مثل الأساتذة صلحي الوادي رحمه الله، وماري إلياس، وحنان قصاب حسن، ونبيل حفار، ومصطفى عبود، وخبراء روس مسرحيون أكاديميون على مستوى عالٍ، مثل فيودور للصوت، و لاريسا للرقص، وألكساندر رحمه الله للحركة، وكلهم أسسوا وقضوا سنوات طويلة فيه، ولهم الفضل والشكر(وعذراً لا تحضرني أسماء عائلاتهم)، فضلاً عن أساتذة التمثيل الأساتذة: نائلة الأطرش، وجمال سليمان، وحاتم علي، وغسان مسعود، وفايز قزق، وفؤاد حسن، وجهاد سعد، ودلع الرحبي وأمل عمران، وسامر عمران.
وطبعاً في حديثي عما آل إليه حال المعهد العالي، لا أغفل الظروف الشاقة التي تمر بها بلدي، ولكن مقصدي أن أركز على حالة تمتد إلى ما قبل ٢٠١١ بسنوات.
والآن ما يجري هو أننا نحن الممثلون أينما كنا خارج، أو داخل سوريا، نقوم بالعمل والاستمرار فيه حكماً لأنها مهنتنا وحرفتنا، ولابد من ذلك، ففي السنوات الأخيرة ، ولأسباب شخصية وعامة سعى الجميع ومنهم أنا، لتثبيت الوجود والاسم، كرافد غير مباشر في عين البعض، وأراه أنا مباشراً، لدراما بلدي وأرى هذه المسلسلات على بعض الشوائب التي فيها، والتي ليس لدينا يد فيها كما أسلفت… أراها اجتهاداً ومجهوداً في طريق صحيح، ومنها شراكتي مع المخرج الصديق سامر برقاوي، وأرى قيمتها تكمن في الجهد الكبير ضمن ظرفها الذي خُلقت فيه، وكيف استطعنا مع الشركة المنتجة الوصول إلى الجمهور العريض، من خلال درامات محببة، قد لا يراها الناقد على أنها من الوزن الثقيل، ولكن مشاهداتها الكبيرة تستحق التوقف والدراسة النقدية العلمية.
تبقى الإجابة على أسئلة كبرى حول غياب النصوص المنشودة عن قطاع من الجمهور لا يستهان فيها؛ أضف إليها وجود دخلاء وجهلة على كل قطاع من المهنة أصابها في مقتل.
ويتبع هذا سؤال عما ستكون عليه الحال في السنوات المقبلة، مع كل الصعوبات التي تحيط بمهنة لطالما أُلبست لباساً فضفاضاً، وتوقع منها الناسُ الكثير كما ومنا الكثير؟، ونحن حقيقة في مطبخها وداخلها حائرون وقلقون كما تلك اللحظة عام١٩٩٥ في كواليس مسرح القباني، الخبرة زادت نعم ولكنّ الأسئلةَ في مكانها، وكبرت وزادت عمقاً: ماذا في المستقبل وهل من كُتَّاب ومجددين، فهُم عمودها وروحها وعمادها، هل من فرج.. ومُنجد؟