إسلام وهبان
لا زالت ثورات الربيع العربي، وتبعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية أيضا، مادة دسمة وشهية للكتاب والروائيين العرب للحديث عنها وتناولها من خلال أعمالهم الأدبية، غير أن رواية “ربيع الشتات” للكاتب الدكتور سراج منير، والصادرة عام 2019، عن “الكتب خان”، كانت ذات طابع خاص، لما عكسته من واقع لحياة الشباب العربي المغترب بعد فقدان الأمل وضياع الحلم، وما خلفته هذه الصراعات والحروب بين القوى السياسية من شتات وتمزق وانهيار.
“ربيع الشتات” هي الرواية الثانية في مشوار سراج منير، ولكنك تجد نفسك أمام حكاء متمرس، يدخلك من قصة إلى أخرى ومن تساؤل لآخر، وينتقل من حالة لنظيرتها بكل رشاقة، فيذهب بك من الكويت إلى الفلبين، ومن مصر إلى سوريا، ومن الهند إلى ليبيا، حكايات عن اشتباكات الثوار، ونهاية أنظمة، وفراق أوطان، وضياع أحلام، وقصص حب زائفة، وعشق صوفي، وغربة تقتل الأرواح، وأمنيات لا تنتهي.
تتناول الرواية العديد من الثورات التي اجتاحت عالمنا العربي، وبدلت خريطته وتفاصيله، وركزت على تبعات الثورة في مصر وليبيا وسوريا، وكيف تحولت هذه الثورات من حلم مشرق يشع بهجة ويحمل للشباب الكثير من الآمل إلى كابوس مظلم لا نهاية فيه، ويبرز كيف أثر ضياع هذا الحلم في غمضة عين على الملايين من الشباب حتى أصبحوا مغتربين ومهددين داخل أوطانهم، وأصبحت الغربة أو الهجرة هي ملاذهم الوحيد.
حاول سراج منير في روايته أن يبتعد عما جرى من أحداث اندلعت من خلالها هذه الثورات، أو تحليل لمواقف كل فصيل سياسي، ولا كيف تدخلت قوى خارجية أو داخلية لتغيير مسار هذه الثورات، لكنه ركز على تأثير ضياع هذا الحلم على الشباب، وكيف تغيرت مسارات حياتهم بعدها، ومدى المعاناة التي يعانيها حاليا هؤلاء الشباب من أجل البقاء، وتوفير حياة آمنة وهادئة لذويهم.
“فحسن” خريج دار العلوم، العاشق للغة العربية وللأدب، سافر للعمل للكويت كسائق تاكسي، بعد أصيب خلال ثورة يناير، ومعاناته من اضطرابات نفسية نتيجة ما واجهه من صدمات بعد ضياع حلمه. كذلك صديقه “هشام” الليبي، الذي هرب من ليبيا بعد مقتل زوجته وحبيبته، في قذف صاروخي، وفراره هو وعائلته من دولة لأخرى، حتى استقر به الحال كفرد أمن بإحدى البنايات في الكويت رغم مؤهله الدراسي الجامعي وثقافته الواسعة، وسره الذي أخفاه عن الجميع. كذلك “عبد العزيز” و”حماد” و”علاء” و”خالد” وغيرهم من شخوص الرواية الذين يحاولون الفرار من خيبات الانكسار بعد ضياع أحلامهم والمهانة التي عاشوها في أوطانهم، ومحاولة البحث عن حياة جديدة مهما زادت قسوتها.
لم تقتصر الرواية على أن تتناول الثورات التي اندلعت في كثير من بلدان الوطن العربي، بعيدا عن الحياة الاجتماعية، بل تناولت العلاقة بين الرجل والمرأة ونظرة الرجل الشرقي للنساء، وطرحت العديد من التساؤلات حول حقيقة الحب، وتأثير وجود المرأة في حياة الرجل، ومدى قدرة كل طرف على الارتقاء بالآخر أو تدميره كليا، وهل هناك شكل ثابت للعلاقات الناجحة، أم تختلف كل علاقة باختلاف شريكيها.
حاول المؤلف أن يقدم للقارئ نماذج مختلفة من النساء التي لم يعتد عليها، وأن يغير الصورة الذهنية عن المرأة التي تطرح في كثير من الأعمال الأدبية على أنها مقهورة ومضطهدة دائما وأنها قليلة الحيلة، فقدم الشخصية القيادية المساندة والداعمة دائما والقادرة على خطف قلب من تحب والمتفهمة لمتغيرات الحياة وضرورياتها من خلال “شيخة” الفتاة الثلاثينية الخليجية. كما تناول صورة “الفتاة الفلبينية” بعيدا عن الصورة النمطية للخادمة التي يقهرها سيدها وتضطر لقبول ما هو أسوء من أجل لقمة العيش، وذلك من خلال شخصية “جانيس”، التي تملكت قلب “حسن” بعد فترات من الخوف والتردد والشك.
أعتقد أن النماذج التي طرحها منير سراج للمرأة وللعلاقة بين النساء والرجال، دعوة منه على التمرد على العلاقات التقليدية التي نراها ليل نهار في مصر، ولا تنتهي سوى بفشل ذريع أو حياة تعيسة تخلو من المشاركة والتماسك والرغبة الحقيقية على الاستمرار.
عدد كبير من الروايات تناولت الربيع العربي، والثورات التي غيرت العالم العربي بل والشرق الأوسط بأكمله، لكن لم تتناول الكثير منها الصراعات الدائرة في ليبيا، وتأثيرها على الليبيين أنفسهم، لكن “ربيع الشتات”، سلطت الضوء بشكل كبير على الجانب الإنساني لهذا الدمار الذي لحق بلبيا، والنهاية غير المعلومة لهذا الصراع، فلم يعد أحد يعرف من يقاتل ضد من ولأجل ماذا.. صحراء شاسعة تحولت إلى دمار ومنبع للإرهاب ومهد للخراب، وأصبحت على اتساعها أضيق من “خرم إبرة” على مواطنيها، الذين لم يعد أمامهم إلى الموت داخلها أو الشتات والضياع خارجها إلا من رحم ربي.
يجسد “هشام” صورة لليبي الذي فقد حبيبته دون أن يدري بأي ذنب قتلت؟! ودون أن يعرف ما الذي جنته هذه البلد حتى يؤول أمرها إلى ما وصلت إليه. شاب يكاد يحتفظ بوجوده على قيد الحياة، لا يعلم أمن حقه أن يحلم ويسعى لحياة جديدة؟ أم أن ماضيه وخيباته ستلحق به أينما ولى وجهه!! أصبح محاصرا بالخوف.. لا يرغب في أن يقدم على خطوة جديدة فيضيع ما تبقى من بين يديه، لا يعرف إذا كان تمسكه بالمبادئ والقيم هو الطبيعي أم أنه سيجلب له مزيدا من الحسرات.
رغم تعدد شخصيات الرواية وتسارع أحداثها وتعدد تفاصيل كل شخصية، إلا أنك لا تشعر معها بالملل أو تتوه بين قصص أبطالها المتعددة، فقد تمتعت بأسلوب مميز في السرد، ينتقل من خلاله المؤلف بين شخصية وأخرى ويمزج بين الماضي والحاضر، بشكل مميز أضفى عنصر التشويق للأحداث، وبلغة رشيقة اعتمدت على الحوار بشكل أساسي مبتعدة عن التراكيب اللغوية المعقدة، فضلا عن اختلاف جنسيات أبطال الرواية الذي أعطى فرصة للتعرف على عادات وثقافات مختلفة، دون أن تفقد الخيط الرئيسي للأحداث.
تتناول الرواية معاناة الجاليات العاملة في بعض دول الخليج، وكيف أصبحت هذه الدول محط أنظار وآمال الكثيرين من أبناء الدول الأكثر فقرا واضطهادا، ولكنها في الوقت نفسه محفوفة بالمهانة والمعاملة غير اللائقة من بعض المواطنين الأصليين، الذين يرون هؤلاء الوافدين مجرد خدم، وينظرون إليهم نظرة غير آدمية، تعتمد بالأساس على المنفعة المادية فحسب.
رواية “ربيع الشتات” ترصد واقع الشباب العربي بعد أن غيرت الثورات خريطة عالمهم، وتحكي بشكل مميز عن معاناتهم وكيف أصبحت حياتهم على الحافة، بعد أن تحول الربيع العربي إلى ربيع للشتات، كما أنها محاولة جادة للتعبير عن شريحة من المطحونين الذين لا يرغبون في شغل سلطة ولا الانتماء إلى تيار سياسية لم تعد قادرة على احتواء ما يعيشونه.