إسلام وهبان
تغيرات عدة مر بها الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش -أحد أبرز القامات الأدبية العربية- خلال حياته، سواءً على المستوى الشعري أو الفكري أو الإنساني، إلا أن فترة إقامته في مصر كانت نقطة تحول كبرى في مسيرته الإبداعية، وكانت بداية لتطور موهبته الشعرية وفك كثير من القيد حولها، والتعرف على العالم نظرة أكثر شمولية واتساعا.
في كتابه “المتن المجهول”، الصادر حديثا عن “منشورات المتوسط”، يرصد الكاتب الصحفي سيد محمود، كواليس إقامة محمود درويش بالقاهرة من فبراير 1971 وحتى 1973، وتفاصيل حياته بعد انتقاله من موسكو إلى مصر وعمله بعدد من الصحف القومية، وأبرز الفعاليات الثقافية التي أقامها والصداقات التي كونها داخل مصر خلال تلك الفترة، وذلك من خلال عدد هائل من الوثائق التي تنشر مجمعة لأول مرة في كتاب.
يبدأ الكتاب بمرحلة صعود نجم محمود درويش كأحد أبرز شعراء الأرض المحتلة، وهو اللقب الذي أطلقه غسان كنفاني على درويش ورفاقه، وترصد الفصول الأولى من الكتاب كيف احتفت الصحف والأوساط الثقافية في مصر بأشعار محمود درويش، قبل قرار إقامته في القاهرة، وذلك من خلال العديد من المقالات والملفات التي كان من أبرزها ملف “دار الهلال”، التي نشرت إحدى أحدث دواوينه عام 1968.
كما تناولت الفصول الأولى من “المتن المجهول” المعاناة التي تعرض لها درويش سواء من جانب الحكومة الإسرائيلية بتقييد حريته والأقامة الجبرية بمنزله أو سجنه ومنعه من السفر، أو من قبل بعض الكُتاب والنقاد العرب الذين اتهموه ببيع القضية الفلسطينية والخيانة أو العمالة لإسرائيل، وذلك بعد سفره ضمن وفد شعبي للحزب الشيوعي الإسرائيلي للمشاركة في مؤتمر الشبيبة بصوفيا 1968، وكيفت تعاملت الصحف المصرية مع الموقف. ثم مرحلة دراسته في موسكو وترتيبات نقل إقامته إلى القاهرة، في مطلع السبعينيات والحديث عن لقائه بالرئيس عبد الناصر في روسيا، وأسباب اهتمام الدولة المصرية بمحمود درويش حتى مجيئه إلى مصر في فبراير 1971.
لا ينفصل الكتاب في كشفه لتفاصيل حياة محمود درويش بمصر، عن المشهد السياسي المصري والعربي بل والعالمي خلال تلك الفترة، فيتناول الكتاب بشكل كبير أصداء الصراع العربي الإسرائيلي خاصة بعد نكسة 1967، وكيف رأت شريحة كبيرة من المثقفين أن نضال محمود درويش ورفاقه من داخل الأرض المحتلة ذو تأثير أقوى من حصوله على حريته والتنقل من دولة لأخرى، فيما يرصد الكتاب كيف تباينت آراء المثقفين وكبار الكتاب حول هذه النقطة، من خلال عرض أغلب المقالات التي كتب عن محمود درويش أو كتبها بنفسه خلال إقامته بالقاهرة.
انتقال درويش من حيفا إلى موسكو ومن موسكو إلى القاهرة جاء في توقيت بالغ الأهمية، حدثت خلاله العديد من التغيرات في المشهد السياسية، سواء في سياسات جمال عبد الناصر، أو بعد رحيله وتولي السادات الحكم، وما قام به من تغيرات جذرية في سياسات الحكم ونظرته للقضية الفلسطينية، الأمر الذي ظهر جليا بين صفحات الكتاب، وتأثير ذلك على طريقة التعامل مع محمود درويش في مصر.
يحيلك سيد محمود في كتابه إلى عشرات المراجع والوثائق الهامة عن محمود درويش، فلا تخلو صفحة من صفحات الكتاب من المراجع والكتب أو الوثائق النادرة، فالكتاب رصد بشكل دقيق حياة محمود درويش في الفترة من 1968 حتى 1973 من خلال كل ما كتب أو ذكر في مقابلات صحفية أو تلفزيونية عن محمود درويش في تلك الفترة، فلم يترك سيد محمود “قصاصة” من أرشيف الصحافة المصرية أو العربية إلا تناولت حياة محمود درويش أو ورد فيه اسمه إلا واستعرضها وحللها وربط مدلولاتها للتعرف على كل شيء عن حياة درويش بالقاهرة.
كما أن الكتاب يضم عددا كبيرا من الوثائق النادرة كقرار تعيين محمود درويش بالأهرام، وتقاضيه راتبا شهريا 140 جنيها، وأول قصيدة ينشرها درويش بعد إقامته في القاهرة، فضلا عن عشرات المقالات والموضوعات الصحفية التي كتبها خلال عمله بمركز الشئون الفلسطينية (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية حاليا)، بالإضافة عن عشرات الصور لدرويش من ساعة الإعلان عن وصوله للقاهرة حتى رحيله إلى بيروت.
عمل “درويش” بجريدة الأهرام ومجلة “الطليعة”، ومن قبلها كتاباته بمجلة “المصور، وعلاقته بالكبيرين أحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل، وعمله بنفس المكتب الذي يعمل به نجيب محفوظ بالأهرام، وعلاقته بالعديد من الصحفيين والكتاب والتي تنولها الكتاب،لم تعكس فقط سيرة محمود درويش بل عكست أيضا سيرة الصحافة المصرية خلال فترة إقامة درويش بالقاهرة، وأبرز القامات الصحفية وقتها، وأهم القضايا التي شغلتها، فضلا عن التقلبات التي طرأت عليها منذ النكسة مرورا بتولي السادادت الحكم وصولا لما بعد انتصارات أكتوبر وما شهدته الصحافة من تضيق، والتي كانت إحدى أسباب ابتعاد درويش عن القاهرة.
الصورة التي تم تصديرها عن محمود درويش دائما في وسائل الأعلام، أنه شخص انفعالي يتمتع بقدر كبير من التعالي، ومحب للترف، حتى أن كثير من الكتاب كان يثيرهم هذا الغدق الذي يعيش فيه، لكن الكتاب يعكس صورة أخرى لدرويش، وتبرز الجانب الإنساني الذي غفلت عنه كثير من الروايات، فقد كان محبا للقاهرة وسعيدا بسماعه للعربية في كل مكان فيها، لكنه لم يكن شعبويا أو محبا للتجمعات الثقافية في مقاهي وسط البلد، وعلى الجانب الآخر كانت تجمعه صداقات كبيرة بالعديد من الشعراء والصحفيين أمثال عبد الرحمن الأبنودي وهيكل وأحمد بهاء الدين الذي كان يصفه “بفلذة كبده”.
الكتاب ثري ومليء بالمعلومات الدقيقة والتفصيلية عن محمود درويش وحياته بمصر، فضلا عن ملحق يضم تفريغ كامل لكل ما كتبه درويش أو كتب عنه خلال فترة إقامته بالقاهرة، وعدد كبير من الصور التي التقطت له في العديد من المناسبات.