مينا فريد
(1)
ديسمبر 2020
طلبت من إحدى تطبيقات الهاتف من مطعم فول وفلافل شهير في القاهرة يدعي أنه شعبي و راقي سويا، “شقتين” طعمية كما يقال بالفيومي الأصيل.
في خلال ساعة وصلني ودفعت مبلغ لا يتناسب مع إيماني أنهم شقتين طعمية، رغم فخامة التغليف، وجودة الطعم لم يقترب أحدا أبدا من طعم طعمية مدبولي.
إتصلت بصديقي المقرّب المتواجد الآن في ألمانيا ويفعل شئ ما عبقري له علاقة بمنظومة سيارات أودي و قلت له: هل تذكر طعمية مدبولي؟
-ومن من الممكن أن ينساه؟
(2)
في فجر يوم 2 يونيو عام 2003
إنتهيت مع صديق عمري من حل آخر نموذج إمتحان فيزيا قبل أن نبدأ سويا في معركة مذاكرة ما قبل إمتحان العربي في الملحمة المطلق عليها ثانوية عامة…
كان بيننا إتفاق..
أنا مسئول عن اللغات والإقتصاد وهو مسئول عن الفيزياء والرياضيات ..
بداية من الغد سيبدأ دوري المهم..
يومها و بكل فخر وبعد أن اغلقت الكاسيت من شريط كوكتيل موسيقى عمر خيرت..
قولت له : بينا على مدبولي.
¬¬¬¬¬¬¬¬********
أنسام الصباح تداعب شعورنا المنكوشة..
والعيون المتعبة تنظر للأشجار المحيطة ببيتنا البسيط المتوسط بمدينة الفيوم الذي بدأت أن أحكي عنه لصديقي المتعب مثلي تماما.
قلت بفخر: البيت يحيطه من اليسار والأمام ثلاثة فيلات … فيلا مدير الأمن التي توفر لنا عساكر وغفراء يحرسون المدخل الغربي لشارعنا، وفيلا لعضو مجلس شعب شهير في مرحلة الحزب الوطني.. و فيلا أخرى لمدرس لغة عربية مشهور .
وقتها في الستينات حينما قام جدي ببنائه.. بناه كفيلا لازلنا نحتفظ بعنوان فيلا خليل من باب الفشخرة الفارغة، ثم تحوّل بعد تدخلات هندسية حمقاء لبيت ثلاثة أدوار مع إلغاء الحديقة ..
هذه المنطقة التي كانت فبلا راقية في مدينة الفيوم قامت الحكومة بإنشاء مساكن شعبية
بالقرب منها على شكل علب كبريت كبيرة ..
هي حزينة بالفعل من قبل أن يزيد حزنها من يسكن بها ومحمل بالهموم.
بدأ الزحف العمراني يمينا حتى أخذت الشكل الحالي ..
وظل بيتنا متوسطا كما نحن أيضا…
كان صديقي غير مهتم ..
دائما هو هكذا غير مهتم أو يهتم جدا ..
و لكني أحبه …
و أحبه جدا…
الآن لا أحد غيرنا في الشارع ونحن نحكي كلام غير مهم…
مشينا قرابة الثلاث دقائق حتى وصلنا لمدبولي في الحارة التي أسماها بإسمه “شارع مدبولي” المتفرعة من أحد حواري حي “التفتيش”.
(3)
مدبولي الذي كان في بداية الألفية في الستينات من عمره، كان أبي وعمي يذهبون لشراء الطعمية منه في السبعينات من القرن الماضي.. تخيّل!
اللذيذ هو إكتشافي لهذا المكان وحيدا دون أن يدلني أبي على وجوده..
محل يملك ناصيتين ودهان أخضر مبهج..يقوم بتشوين الخضروات في أقفاص في جانب المحل..
يوما ما أحضرت في أحد أيام الجمعة الطعمية منه للمرة الأولى سألني أبي لماذا هي مختلفة عن كل مرة ؟ وصفت له المكان.. ضحك و قال لي عندي ذكريات كثيرة هناك…
كان وقتها مدبولي شابا وعام 2003 هو كبيرا في السن..
وزنه زائدا و شنبه أيضا…
كان يجلس في مملكته في كرسي بسيط…
و زوجته في الجوار تقطّع السلطة …
قلت له على طلبي.. طعمية و فلفل مقلي…
صديقي كان مصاب بحساسية للفول ولكنه كان يأتي معي لمدبولي، ولم يصبه مدبولي بالحساسية أبدا..
و لم يعرف أحد أبدا السبب
(4)
جارا قدميه المليئة بالدوالي..
وضع مدبولي عجينة الطعمية على شكل أصابع تشبه الكفته في الزيت القديم قدم المحل نفسه..
بدأت الرائحة المميزة في مداعبة عقلي المنهك …
أعطانا قطعة من حديد تسليح مشرشر قطر 12 مللي لتقليب الطعمية….
قلّبت أنا و صديقي وأحضرنا له الخبز واستمتعنا بثلاثة أنصاص – التي يطلق عليها هناك “شُقق”- من الطعمية الساخنة والفلفل المقلي ولم ينس وضع سر الخلطة..
لبن رايب بالشطه فوق الساندوتش بدلا من الطحينة… و خيار مخلل مقطّع قطعا كبيرة.
(5)
في تمام الساعة السادسة صباحا كنا قد إنتهينا من الأكل… وتوجهت مع صديقي لأول الشارع لشراء الجرائد أما هو فذهب لينام على إتفاق للقاء بعد الظهيرة لنبدأ مرحلة جديدة .
روتين يومي كان شريكنا فيه ومصدر ترفيهنا مطعم طعمية شعبي بسيط.
(6)
يوليو 2013
رجعت في أجازة من عملي بالخارج و قررت أن أزور عم مدبولي في مكانه القديم مستعيدا ذكريات جميلة لي معه.. يومها وجدت المحل قائما ولافتة شارع مدبولي قائمة…. ولكنه لم يكن هناك ولا زوجته أيضا.. إثنين من الشباب يستخدمون المحل وقتها.. كانت الأصناف أكثر والزيت أنظف والمكان مزدحم واللبن الرايب المخلوط بالشطة أيضا فوق الساندوتشات كتركة حافظوا عليها..
و لكنه أبدا لم يكن بطعم ساندوتش مدبولي الأصلي.
لم أسأل عن مدبولي و لكني ترحمت عليه لعلمي بأنه لن يترك هذا المكان أبدا بإرادته.
(7)
هناك بعض الأسرار المتعلقة بمدبولي التي لا يعلمها الكثيرين .
مثلا من أين يأتي مدبولي بالمخلل؟
يأتي به من سيدة أربعينية أرملة تسكن في حارة موازية لحارة مدبولي.. تقوم بعمل المخلل بأصناف وأشكال مختلفة في بيتها البسيط جدا وتفتح نافذة تربط شقتها بالدور الأرضي بالشارع الخارجي.
لماذا يستخدم مدبولي اللبن الرايب بدلا من الطحينة؟
تقول الأسطورة أنه في يوم مرّت سيدة فلاحة بسيطة تبيع اللبن الرايب وطلبت منه أن يراضيها .. يومها جرّب هذه الخلطة و رزقه الله من وسع فتفائل وظل دائما على عهد اللبن الرايب على الطعمية.
خلف كل طعم حلو ومميز منه .. إحساس و مشاركة وتقدير..
خلف الأكل الشعبي وصناعه حكايات تمثل لنا الحياة ذاتها ..
وفي شوارع الفيوم العديد من حكايات الأكل..
كانت هذه الحكاية عن طعمية مدبولي..
ولكن كيف ننسى عدس السني؟
تلك قصة أخرى.