ورقة عزيزة جدا وغالية من أوراق ذكرياتنا الأولى، وحنيننا إليها لا ينفد، سقطت برحيل الكاتب د.نبيل فاروق صاحب البهجة الأولى وتفتح العين على شغف القراءة وارتباط الوجدان بكلمات “روايات الجيب” و”سلاسل المغامرات” و”أدب الرعب” و”الخيال العلمي”.. إلخ
إنها ذكرياتنا التي لا ننساها لسنواتنا الأولى (بعد الخامسة) كنا نحبو فيها حبوا نتعرف على العالم ونتحسس الوسائل المتاحة والمصادر الممكنة للتعرف على هذا العالم كانت الإذاعة والتليفزيون والتعرف على “روايات الجيب” هي الدنيا بأسرها.. كانت مرحلة ميكي وسمير وماجد وبراعم الإيمان مبكرة للغاية ربما استغرقت السنتين أو السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية. ثم جاءت مرحلة اكتشاف “روايات مصرية للجيب” التي صدر أول أعدادها من سلسلة رجل المستحيل في العام 1984.
كان بجوار المدرسة مباشرة مكتبة اسمها (مكتبة نور الدين)؛ وأنا مدين بمحبتي (لروايات مصرية للجيب)، والتعرف عليها إلى هذه المكتبة التي كانت تحرص على توفير إصدارات المؤسسة العربية الحديثة (لصاحبها المرحوم حمدي مصطفى)؛ ليس فقط من الكتب الخارجية، إنما أيضًا من إصدارات هي الكتيبات الصغيرة اللي قد الكف ومكتوب عليها “روايات مصرية للجيب؛ التي ظهرت للمرة الأولى عام 1984، وتعرفتُ عليها مع صديقي آنذاك أحمد صلاح زين العابدين، ونحن في الصف الثالث الابتدائي موسم 86/ 87 (ولا تتعجب، فقد كنا نجيد القراءة والكتابة بالعربية والإنجليزية بكفاءة ممتازة) ثم ارتبطنا أكثر فأكثر بأعمال نبيل فاروق “رجل المستحيل”، و”ملف المستقبل”، ثم “كوكتيل 2000″، و”بانوراما”، و”زووم”.. إلخ.
“غرقنا لشوشتنا” في محبة وإدمان روايات نبيل فاروق البوليسية والمخابراتية، وأصبحنا نعيش أحلامنا وخيالاتنا مع أدهم صبري رجل المخابرات المصري الذي لا يقهر ومع فريق نور الدين العلمي الجبار الذي يسافر عبر الزمن ويسقط في هوة النسيان ويقاوم الغزو الفضائي للأرض ويكتشف البطل الخارق (س-18) الذي كان هدية صناع أتلاتنتس إلى الفراعنة الأفذاذ.. وتتوالى الأحداث والمتعة والانغماس الكامل في القراءة التي أصبحت عادة وطقسا مثل الأكل والشرب والنفس.. وكنا نتبارى في نقل الهوامش أسفل الصفحة التي كان يمتعنا نبيل فاروق بها؛ معلومات في الأدب والتاريخ والجغرافيا والفلك والعلوم والطب.. إلخ (طور نبيل فاروق توظيفه لهذه المعلومات الأولية والمعارف الموسوعية في سلاسل أخرى أطلق عليها أسماء مثيرة مثل زوووم وكوكتيل 2000 وبانوراما)، وكان ظهور الجزء الأول من روايته التي أطلق عليها اسم رواية اجتماعية طويلة (أرزاق) حدثا جماهيريا في أوساط متابعي نبيل فاروق، وقد كان ذا شعبية وجماهيرية غفيرة ليس في مصر وحدها بل في كل أنحاء العالم العربي، تقريبا لم يراسله قارئ صغير من قرائه إلا ورد عليه وأورد اسمه في قسم الردود والخطابات، تعلقنا به وصرنا نتتبع كتاباته ونشاطه طوال ما يقرب من خمس سنوات لم يكن ينافسه فيها أحد.
أذكر أنني كنت أخصص كراسة وحدها وأزينها بغلاف زاهي اللون وأضع عليها “تيكيت” أكتب عليه بخطي “كراسة معلومات نبيل فاروق” أتحرى الجمال والإتقان في النقل، وأستعين بهذه المعلومات الوافرة في إعداد برامج الإذاعة الصباحية (هل تعلم؟ ومن أجندة التاريخ ومن سجلات المعرفة… إلخ) ومجلات الحائط المدرسية، وكانت هذه الكراسة تقريبًا السبب الذي جعلنا “فريق المدرسة” نكتسح كل المسابقات التي تنافسنا فيها على مستوى الإدارات والمديريات والقطاعات التعليمية وصولا إلى حصد الجوائز الأولى على مستوى المحافظة.
حينما التقيت الدكتور نبيل فاروق ذات مرة سعد جدًا عندما أخبرته بذكرياتي تلك، وأيضًا بعد ذلك عندما التقيت المرحوم أحمد خالد توفيق صاحب سلسلة “ما وراء الطبيعة” التي قرات منها أعدادًا يسيرة، ثم انصرفت عنها بعد ذلك لاهتماماتٍ أخرى..
كنت أحبه وأحترمه، وكان يحبني ويقدرني جدا، عليه رحمة الله.. رحم الله نبيل فاروق وأسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون.